يتجشّم الخبير الاقتصادي الشاب الدكتور بشير مْصِيطْفَى، مشاق السفر وأتعاب التّنقّل من ولاية إلى أخرى، في رحلة التبشير لغدٍ أفضل للجزائر، يشاركه في رؤيته، شباب كثير من مختلف الولايات، ولا يراه معهم بعضُ اللاعبين الأساسيين في الساحة السياسية، ممن اختطفوا الجزائر، وجعلوها وما تكتنز، أشبه بالملكية الخاصة، ولكنه لم يتعب ولم يكل، وراح يدق بقوة الواثق بالنصر، كل الأبواب الموصدة أمامه عمْدًا أو غباءً، وظل يجمع من حوله المؤمنين بصناعة هذا الغد الذي يراه قريبا، حتى توسّعت الدائرة، وأصبح كلما دخل مدينة من المدن البائسة، ملأ قاعتها التي تشكو عادة من غياب روادها المُحتملين، إلا من أولئك الذين يصطادون فريسة في شكل منصبِ أو وظيفة، لدى مَن يعتقدون أنهم قدَر الجزائر الثابت، فأخّروا رحيلهم إلى حين، وكانت قاعة المكتبة الوطنية يوم السبت الماضي، ملأى عن آخرها بنخبةٍ من المريدين المتخصّصين في كثير من العلوم، فأعادوا- كل من زاويته المعرفية- تشخيص داء الجزائر، الكامن في عُقْم سياستها وبؤس ساستها، وقدّموا الدواء المعتمِد أساسا، على توظيف العلم والمعرفة، كطريق سريع للخروج من النفق، وتعاهدوا على ألاّ يتركوا الجزائر تسقط أو تتشقّق كما يريد لها أعداؤها. لا أستطيع أن أخفي حالتي مع »ظاهرة« مْصِيطْفَى، فكلما أحضر لقاء أو ندوة أو جلسة، يكون بطلَها هذا الشابُ العائد بشحنة الإيمان بوطنه ودينه، من بلاد كل الإغراءات، يعود إليّ تفاؤلي أو بعضه على الأقل، بعدما يكون اليأس من إصلاح الوضع قد طغى عليّ، والتشاؤم من إمكانية العودة إلى الطريق السويّ قد اجتاحني، فأفرح بكلام هذا الشاب الخلوق، القادر على التواصل بشكل خارق للعادة، حيث يكون مسح كثيرا من آثار ذلك اليأس، لا لكوني سأخرج نهائيا من تشاؤمي، ولكنه يضعني على ناصية طريق الأمل، فأرى فيه وثبة الشباب الجزائري وقوته وعزيمته، في إخراج الجزائر من الحُفَر التي وضعها فيها السفهاء من أبنائها، وأحس أن البلاد بخير، رغم كل الشّرور التي تحيط بها من كل جهة، وأن هذا الشباب قرّر أن يصنع غده بنفسه، غدا خاليا من الفساد والمفسدين، غدا يحس فيه المواطن والساكن بطعم الحياة ونُكْهتها، غدا يحمل الحياة السعيدة لكل مولود يولد بيننا، إن لم يكن ذاك الغد على أحسن صورة، فعلى صورة حسنة، حتى وإن كانت »رائحة النفط« ما زالت تخنق الأنفاس، وقد أضاعت الطريق على الناس، وأنهت عنهم »ريعهم« حتى كادوا يُضيِّعون دولتهم بضياعه . صحيح أن المجتمع يملك كل أسباب النمو، ولكنها مُنوَّمة ومُحيَّدة، مما جعل الركائز التي تدفع الدولة إلى التّطوّر، مُعطَّلة إلى أجلٍ غير مُسمّى، وقد يؤدي هذا التعطّل إلى إعاقةٍ دائمة تصيب الدولة، على المَدَييْن القريب والمتوسِّط، ولكن الصحيح أن الحالة الصعبة التي يعيشها المجتمع، قد أجمع بصددها كل العقلاء، أنها يمكن أن تختفي إذا ما استيقظ الوعي بخطورة المرحلة، واجتهد مَن بيدهم الأمر، على توظيف كل الإمكانيات التي تُسرِّع بالخروج من الأزمة المتعدّدة الرؤوس بوتيرة أسرع، مما هي لدى المجتمعات الأخرى التي سبقتنا، وإلا بقي مجتمعنا في ذيل الترتيب، إن لم يكن خارجه أصلا، ولن يتأتَّى ذلك إلا بتحريك سريع ودقيق ومتّزن، لكل قطاعات النمو الراكدة، والتي اكتسبت ركودها على ما يبدو، من ذلك الركود المعشِّش في المؤسسة السياسية، التي تدير وحدها كل آليات المجتمع، ولكن إلى الوراء للأسف الشديد . إنه من العار إن لم يكن من الخيانة، أن تُنفِق الأمة على تكوين نخبةٍ رائدة في العلوم والمعرفة، أكثر من مائة مليار دولار، خلال أقل من خمسين عاما، وتُهمِلها لتستفيد منها أمم أخرى، كثيرها يناصب أمتنا العداء الدائم، ومن السذاجة والسفه القاتليْن، أن تستغني الدولة الجزائرية المأزومة، عن أكثر من ستين ألف باحث جزائري، في مختلف مجالات البحث والتكنولوجيا، وتسد الأبواب في وجْه أكثر من مائة ألف رجل أعمال جزائري، فتُجبرهم على المساهمة بأفكارهم وذكائهم وأموالهم، في تنمية مجتمعاتٍ بعضها لا يحب الخير للجزائر، إن بناء الدولة لا يجب أن تحتكره أقلية مهما كانت نواياها، بل لن يُكتَب للبناء النجاح، إلا إذا اشترك الجميع في إنجازه، سواء ممن هم هنا ثابتون كالأوتاد، أو ممن هربوا إلى الخارج بأفكارهم، حيث حرية الفكر ونماؤه، ولتكن منهجية التنافس على تطوير المجتمع، كما هي لدى الدول المتقدّمة، التنافس على الإنتاج وزيادته كمًّا ونوعًا، لا على التنافس من أجل إعادة تكوين التّخلّف، كما هو حال البلدان الراكدة، فالأولى تُعتبَر منهجيتها- في رأيي- الطريق الصحيح إلى الصعود، وغيره ليس إلا مسالك إلى الصعود نحو الأسفل، أو للسقوط الحر، وقد يساهم ذلك السقوط- إن حدث لا قدّر الله- في إفراح الدول الكولونيالية وإسعادها، وهي التي تستعد للاحتفال- خلال شهر ماي القادم- بالمائوية الأولى، لتقسيم الجغرافيا العربية إلى ممالك وطوائف وقبائل وجمهوريات كارتونية، وسيكون ذلك الاحتفال - كما يرى كثير من المتبصِّرين- بداية لإعادة تقسيم المقسّم وتفتيت المفتَّت، وتلك لعمري أكبر خيانة- لو تمّت- يُقدِم عليها جيل ما بعد إنهاء الاحتلال... [email protected]