أكد الدكتور محسن مرزوق رئيس المؤسسة العربية للديمقراطية على دور العدالة الانتقالية في دعم مسارات التغيير الديمقراطي، وقال إن أغلب التجارب الجدية للعدالة الانتقالية رافقت مسارات تغيير الأنظمة وانفتاحها الديمقراطي، بينما دعا مشاركون في الملتقى الدولي حول العدالة الانتقالية المنعقد الأسبوع الماضي بالبندقية إلى ضرورة التعامل مع المصالحة كهدف وليس كآلية. مبعوثة »صوت الأحرار« إلى البندقية: سميرة بن عودة اختتمت نهاية الأسبوع المنقضي بمدينة البندقية الايطالية أشغال الملتقى الدولي حول العدالة الانتقالية كأداة للتحول الديمقراطي بمشاركة خبراء في المجال وناشطين حقوقيين وإعلاميين من دول مغاربية وافريقية وأوروبية. الملتقى الذي دارت جلساته بالمركز الأوروبي لما بين الجامعات لحقوق الإنسان والدمقرطة بالبندقية من تنظيم « جي تي زاد » الألمانية بالشراكة مع مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية، وقد تضمن برنامج الملتقى عدد من المداخلات دارت في مجملها حول العدالة الانتقالية في المنطقة المغاربية من النظرية إلى التطبيق مع عرض لتجارب العدالة الانتقالية في كل من الجزائر والمغرب وموريتانيا وسيراليون وجنوب إفريقيا، كما عرج محاضرون على الوضع السياسي في كل من تونس وليبيا، كما تطرق الملتقى إلى دور المجتمع المدني في مسارات المصالحة والتحول الديمقراطي إلى جانب دور العدالة الانتقالية في إرساء نظام ديمقراطي وكذا مقاربة النوع الاجتماعي في العدالة الانتقالية. من الصعب تحقيق العدالة الانتقالية في غياب نظام ديمقراطي وقد أثار الدكتور محسن مرزوق رئيس المؤسسة العربية للديمقراطية في مداخلته إشكالية العلاقة بين العدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي، مؤكدا بالقول « إن مختلف التجارب الجدية للعدالة الانتقالية رافقت تغيير الأنظمة واتخاذها مسارا ديمقراطيا »فمن وجهة نظر المحاضر فإن تطبيق عدالة انتقالية من شأنه دعم وتعزيز مسار التحول الديمقراطي، مستشهدا بتوصيات لجان الحقيقة والمصالحة والتي تشدد في أغلبها على ضرورة إدخال إصلاحات سياسية تكون كضمان لعدم تكرار الانتهاكات التي وقعت في الماضي مستقبلا، كما أنها خطوة نحو إعادة بناء الوحدة الوطنية بعد النزاعات والأزمات. وفي المقابل وحسب رئيس المؤسسة العربية للديمقراطية، فإنه من الصعب الذهاب إلى عدالة انتقالية خارج نظام ديمقراطي، لأنها تتطلب مساحات معينة من الحرية والديمقراطية، مشيرا في المقابل إلى التجربة المغربية التي لا تخضع لهذا المعيار أي التغيير بل إنها جاءت في ظل استمرارية النظام، كما أبرز المتحدث ضرورة وأهمية تقديم ضمانات كافية لممثلي الأنظمة القائمة تتعلق باستبعاد إمكانية الانتقام منهم وعدم متابعتهم على الانتهاكات المرتكبة لإقناعهم بالعدالة الانتقالية كآلية لتحقيق المصالحة وإنهاء النزاعات وتشجيعهم على الانفتاح الديمقراطي، معتبرا أن أهم أسباب تمسك الحكام والقادة بالسلطة هو الخوف من المحاسبة من قبل من يخلفهم في السلطة، ويرى الدكتور مرزوق أن الذهاب إلى مسار ديمقراطي يحتاج بالضرورة إلى جو من الثقة بين الشركاء السياسيين، كما يحتاج أيضا إلى إصلاح للقانون الدولي. أما الخبير وليام شابا من جامعة ايرلندا فقد عاد في العرض الذي قدمه إلى أول ظهور لمصطلح العدالة الانتقالية في سنوات التسعينات من قبل حقوقيين أمريكيين، مشيرا في هذا الصدد إلى النقاش والجدل الذي دار في الثمانينيات داخل منظمة العفو الدولية المناهض لسياسة اللاعقاب وضرورة البحث عن الحقيقة، كما عرج المحاضر إلى ظروف إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والتي ظهرت كفكرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا أن تجسيدها في الواقع مثلما أوضح شابا لم يكن بالمهمة الهينة وتطلب نضالا طويلا إلى أن رأت المحكمة النور سنة 1993 والتي انضمت إليها اليوم 110 دولة. ومن وجهة نظر المتحدث فإن أهداف العدالة الانتقالية تتلخص في أنها أداة لإقامة نظام ديمقراطي، مستشهدا بالتجربة الرائدة لجنوب إفريقيا، حيث سمحت لجنة الحقيقة والمصالحة في وضع حد لنظام الميز العنصري وإرساء نظام ديمقراطي كما تسمح العدالة الانتقالية بالوصول إلى إجماع وطني حول صياغة الحقائق التاريخية للبلاد والحفاظ على الذاكرة الجماعية، كما يذهب الخبير إلى أن المصالحة تتطلب أحيانا عدم الخوض في جميع الحقائق التاريخية التي طبعت الأزمة أو الصراع، وأنه من الأفضل البحث عن توافق سياسي في حالة الفشل في وضع حد للصراعات والنزاعات عسكريا، وأن فلسفة العدالة الانتقالية حسب المتحدث تقتضي الاختيار بين ما هو مرغوب وبين ما هو ضروري ومحتم. أما حبيب بلكوش رئيس مركز الدراسات لحقوق الإنسان والديمقراطية بالمغرب فقد شدد على أنه لا توجد وصفة جاهزة وموحدة للعدالة الانتقالية يمكن تطبيقها في كل الدول والمجتمعات، بل إن الأمر في طرح المتحدث هو مقاربة حساسة تأخذ في الاعتبار خصوصية كل مجتمع وطبيعة النزاع أو الصراع الذي عرفه هذا المجتمع من أجل إنهاء هذا الصراع وتسوية مخلفاته وتداعياته، ولأنه ليس من الممكن في كثير من الأحيان أن تكون العدالة الجنائية هي الحل يصبح من الضروري اللجوء إلى عدالة بديلة بتوافق بين أطراف النزاع لمرحلة انتقالية، مبرزا أن الحديث عن عدالة انتقالية يتطلب إرادة سياسية ومساهمة من مختلف مؤسسات الدولة إلى جانب فتح حوار ونقاش لرصد انتهاكات حقوق الإنسان وكيفية جبر الضرر بالنسبة للضحايا سواء بشكل فردي إن كانت الانتهاكات فردية أو بشكل جماعي في حالة ما إذا مست الانتهاكات مناطق وأقاليم. وفي سياق ذي صلة بالموضوع أكد المتحدث على ضرورة التعامل مع المصالحة التي تسعى إليها العدالة الانتقالية كهدف وليس كآلية، معتبرا أن المنطقة العربية اليوم في حاجة إلى الذهاب إلى عدالة انتقالية كحل للصراعات والأزمات التي عرفتها عديد من الدول على غرار الجزائر ولبنان والعراق، كما عرج بلكوش في مداخلته إلى التجربة المغربية من خلال لجنة الإنصاف والمصالحة التي بادرت بها السلطات المغربية سنة 2004، مذكرا بالسياق الذي ميز التجربة المغربية وهو كونها جرت في ظل استمرارية النظام القائم، لكنها سمحت بتحقيق عديد من الأهداف منها إعادة 300 مفقود مجددا إلى الحياة بعد ما يربو عن 20 من الفقدان قضوها في المعتقلات، إلى جانب مكسب تعزيز الحريات وكذا عشرات الكتب التي نشرت لتوثيق ما وقع من انتهاكات. المعالجة الأمنية للأزمة الجزائرية لم تنجح في حقن الدماء وقد أولى ملتقى البندقية أهمية خاصة لموضوع العدالة الانتقالية في المنطقة المغاربية من خلال عرض مفصل عن مختلف التجارب التي عرفتها، حيث قدم منصور خديدير قاضي جزائري سابق وأحد خبراء مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية مداخلة عن تجربة المصالحة في الجزائر وعاد من خلالها إلى الأزمة الأمنية التي عصفت بالبلاد واندلاع أحداث العنف في أعقاب توقيف المسار الانتخابي مطلع التسعينات من القرن الماضي، مشيرا إلى أن الجزائر قررت اعتماد سياسة المصالحة الوطنية لحقن دماء الجزائريين بعد سنوات من المعالجة الأمنية للأزمة، مذكرا في هذا الإطار بمختلف المبادرات التي لجأت إليها الجهات المسؤولة منها بجلسات الحوار الوطني التي جمعت بين مختلف الأطياف السياسية وكذا الحوار المباشر مع قادة الحزب المحظور وقانون الرحمة الذي أطلقه الرئيس الأسبق اليمين زروال دون النجاح في وضع حد لكابوس العنف والإرهاب الذي عرفته البلاد، كما عرج الخبير على مبادرة سانت جيديو التي دعت إليها شخصيات وطنية وأحزاب سياسية سنة 1994 والتي رفضتها آنذاك السلطة قبل أن يحييها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد انتخابه سنة 1999 من خلال مشروع الوئام المدني وما تضمنه من إجراءات عفو وتخفيف للعقوبات مقابل وضع السلاح وهو ما سمح مثلما يؤكد المتحدث بعودة آلاف المسلحين مرة أخرى إلى المجتمع منهم عناصر الجيش الإسلامي للإنقاذ. كما توقف خديدير مطولا عند مسعى المصالحة الوطنية الذي أطلقه بوتفليقة سنة 2005 والذي تضمن حسب المتحدث معالجة أكثر شمولية للأزمة كخطوة تكميلية لما جاء في قانون الوئام المدني، وقدم شرحا عن الإجراءات الواردة في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية سواء ما تعلق بشروط العفو عن المسلحين أو المعالجة المقترحة لملف المفقودين والتعويضات التي أقرها القانون لضحايا المأساة الوطنية.