رغم أن بيان رئاسة الجمهورية حمل قرار التغيير الجزئي للفريق الحكومي، بلغة تقنية مباشرة جافة لا تحمل لونا ولا رائحة، ولا تحتمل لا التأويل ولا القراءة، إلا أن الكثير أطلق العنان لخياله ليقدم أسباب التغيير ويعدد دوافعه، ويحدد معالمه، ويتصور أهدافه. وقد كانت لغة الخطاب في الكثير من المنابر تحمل نبرة التشفي والإدانة لرئيس الحكومة المنتهية ولايته وكانت الأولى من نوعها، وإشادة مباشرة وصريحة برئيس الحكومة المجددة فيه الثقة لولاية هي الثالثة من نوعها. رئيس الجمهورية صاحب الشأن لم يقدم أي تفسير لقراره لا تلميحا ولا تصريحا، إلا أن ذلك لم يضع أي صعاب أو عقبات أمام الكثير من المخربشين على سود الصحائف ليتقولوا على الجميع بمن فيهم رئيس الحكومة العائد للمرة الثالثة إلى قصر الدكتور سعدان ومن دون تحفظ. إن التحليل الموضوعي يحتاج إلى معالم ومؤشرات وأحداث ومعطيات منها المباشر ومنها غير المباشر. وإذا كانت تلك المعطيات والمحددات هي واحدة في أكثر من موعد وأكثر من حالة فمن المفروض أن تكون طبيعة التحليلات والاستنتاجات هي واحدة، لكن الذي حدث هذه المرة عقب تنحية بلخادم ليس هو نفسه الذي حدث عقب تنحية أويحيى رغم أن المعطيات هي هي والظروف هي هي وحتى الأجواء هي هي. * لا هونغ كونغ ولا الصومال عندما أقدم بوتفليقة على تنحية أويحي ولا أحد يشكك في كونه رجل دولة محترم أثيرت نفس الأسباب هنا وهناك وذهب الكثير إلى التأكيد أن الرئيس لم يكن راضيا على أدائه، لكن لا احد ذهب إلى انتقاده كما انتقد اليوم بلخادم، وأسيء إليه، ولا أحد أثنى على بلخادم بل العكس الذي حصل رغم أن الرجل لم يتم تجريبه في هذا المنصب التنفيذي حتى ينتقد بتلك الطريقة. لقد بدا الجميع يحتكم إلى أهوائه ونزواته في تقييم الرجال نبراسه الوحيد في ذلك "هذا نتاعنا وهذا خاطي" مع الأسف الشديد. إن من دواعي الإنصاف أن نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت. وفي حالة الرجلين فإن لكل محاسنه وسلبياته لأنهما بشر في آخر المطاف، فلا هذا كله شر ولا ذاك كله خير. أويحيى وللتاريخ تقلد منصب رئاسة الحكومة مرتين وقام بما في وسعه لصناعة سعادة الجزائريين ودفع عجلة تنمية البلاد، واجتهد في ذلك كثيرا لكنه لم يحول الجزائر إلى هونع كونغ أو اليابان. كما أن بلخادم عُين على رأس الحكومة في ظروف جيدة وأريحية مالية ليست خافية على أحد، وقد اجتهد الرجل من أجل تحسين ظروف معيشة الجزائريين، وتنمية البلاد وأقدم على إقرار ما كان يرفضه بشدة وينتقده أويحيى وصندوق النقد الدولي وأصاب في الكثير من المواطن وأخطأ في غيرها وإن بدرجات متفاوتة لكنه لم يحول الجزائر إلى صومال آخر أو تشاد أخرى حتى يُحمل كل هذه الأوزار التي يتشدق بها المزايدون. * اجتهادات ذاتية وتفسيرات مزاجية رئيس الجمهورية تكون له أسبابه الخاصة والموضوعية أو الذاتية لإحداث التغيير اليوم كما أحدثه بالأمس ويكون القرار طبعا متأثرا بمعطيات داخلية وخارجية وتقييم لا يعرف مسطرته إلا الرئيس والمشاركون معه في القرار، وكل ما يثار حول تنحية بلخادم يمكن إثارته عند تنحية أويحيى فالتنحية والتعديل لا ترتبط إطلاقا بهذه الأسباب والمعطيات المثارة هنا وهناك، لأنه لو كان ذلك صحيحا ما عاد الرئيس لنفس الخيار الذي كان قام بتنحيته أول مرة. إن رجوع الرئيس إلى تجديد الثقة في أويحيى يؤكد بأن الأسباب الحقيقية للتعديل توجد خارج هذه الاجتهادات الذاتية وخاصة ما تعلق منها بالأداء، فلو كان هذا هو الدافع لاجتهد الرئيس في البحث عن دم جديد وكفاءة جديدة ولا يعاود تعيين ما أدان أداءه من ذي قبل، ولا يُعقل ألا يكون في الجزائر برمتها وبتعدادها وكفاءاتها شخص آخر غير أويحيى يمكن لبوتفليقة أن بجد فيه حسن الأداء لو كان هذا هو السبب حقا. * التفرقة والتطهير على الهوية إن رائحة الحقد والتشفي ظاهرة تزكم الأنوف في تلك التحليلات غير الموضوعية، إنها نفس عقلية التفريق بين الجزائريين والتطهير الحاصل على الهوية في مستويات أخرى، رغم أن لا بلخادم ظل هو بلخادم في حكومة بوتفليقة ولا أويحيى ظل هو أويحيى في حكومة الرئيس. بلخادم وللتاريخ أيضا كان مدافعا قويا عن المصالحة الوطنية ورفض اقتتال الجزائريين تحت أي طائل أو تبرير ومواقفه وتصريحاته الصحفية شاهدة على ذلك، لكنه عندما قبل تغيير الموقف من المعارضة إلى المشاركة بالدخول في فريق بوتفليقة ونصرته خفف كثيرا من حدة نبرته المصالحاتية وأصبح يتمنطق بنفس منطق ازدواجية المصالحة ومواصلة محاربة الإرهاب، ومارس ذلك بالخطاب والتطبيق، ومع ذلك لنم يشفع له هذا لدى مناوئيه في كل مكان فظل الموقف المعادي يطارده من وزارة الخارجية إلى رئاسة الحكومة. * لا دليل إدانة ولا إشادة بالأداء كما أن أويحيى كان إستئصاليا شرسا رافضا لأي مهادنة مع الجماعات المسلحة، لكنه عندما قبل بخيار الرئيس والانخراط في مساره القائم على المصالحة التحف عباءة رجل المصالحة مع الكثير من الوفاء لقناعته الأولى التي ظل لها موقع قدم قوي في مسار المصالحة نفسه. ومع ذلك فإن هذا لم يكسبه عداء وتشكيك ذويه من المهللين له اليوم وكأنه الرجل المخلص الذي لم تشهد رئاسة الحكومة مثيلا له. فلا تنحية بلخادم من أول ولاية حكومية له هي دليل إدانة لأدائه ولا حكم عليه بأنه ناقص، ولا تجديد الثقة في أويحي للولاية الثالثة إشادة بأدائه، ولا شهادة له بأنه الكامل فالرجلان كفاءتين جزائريتين خدمتهما ظروف وتحالفات سياسية وتوازنات، وخانتهما أخرى في مواطن وظروف أخرى. ولأن هذا هو التغيير السادس الذي يدخله بوتفليقة على رأس جهازه التنفيذي فهذا يؤكد مرة أخرى أن أسباب التغيير يجب البحث عنها في استحقاقات أخرى خارج الحكومة ومحيطها.