منذ إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطابه للأمة يوم 15 أفريل رغبته في مباشرة إصلاحات سياسية، عميقة وشاملة، تحركت مؤسسات الدولة بشكل ملفت لم نعهده من قبل، حيث تم عقد عدة جلسات قطاعية شملت الإدارة، والجبهة الاقتصادية، والسكن والتعمير والمجتمع المدني والشباب، في مسعى لاحتواء الغليان الداخلي في ظل متغيرات إقليمية تتسم بالخطورة. بدا واضحا من خلال التحرك السريع للحكومة ومؤسساتها، في الآونة الأخيرة، أن السلطات العمومية أدركت مدى خطورة تململ الوضع الاجتماعي والاقتصادي في ظل جمود سياسي طبع الحياة العامة في السنوات الأخيرة ووصل إلى حد الانسداد مثلما أظهرته العشرات من الحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد في جل القطاعات الحيوية، كما يبدو واضحا للعيان أن السلطات العمومية من خلال الحكومة تكون قد أدركت أيضا خطورة الاكتفاء بوضع المشاهد أمام تقلبات الوضع الإقليمي والدولي، فحركات التغيير التي طالت بلدانا عربية، تحت اسم »الثورات العربية«، بداية من تونس ومصر وصولا إلى اليمن وسوريا، وانحدار الأمور إلى حرب عسكرية في ليبيا مدعومة بتدخل أجنبي سافر، أجبرت السلطات على إعادة قراءة الواقع الداخلي بامتداداته الخارجية قراءة جيدة وعميقة. ومن هنا جاء قرار مباشرة إصلاحات سياسية عميقة وشاملة وكذا الشروع في جلسات للتشاور ودراسة حاجيات القطاعات الحيوية ضمن إستراتيجية إقحام وإشراك الفاعلين في مختلف القطاعات في بلورة أرضيات للعمل كل حسب اختصاصه والقطاع الذي ينشط فيه. البداية كانت باجتماع وزير الداخلية والجماعات المحلية، دحو ولد قابلية، بولاة الجمهورية، حيث خلص اللقاء الذي دام يومين بقصر الأمم إلى توصيات هامة سيما فيما يتعلق بتخفيف الوثائق الإدارية على المواطن في مختلف الملفات، ورفع الأغلال البيروقراطية التي أثقلت كاهل المواطن وأفقدته الثقة في الإدارة وخلقت وضعا متشنجا في الشارع، وقد زادت مظاهر الفساد من رشوة ومحسوبية الطين بلة، فضلا عن غياب ثقافة الاتصال لدى المسؤولين المحليين واكتفائهم بالعمل المكتبي بعيدا عن الميدان وعدم استقبال البعض الآخر منهم للمواطنين. ولعل مباشرة الحكومة لتشخيص أمراض الإدارة والبحث عن حلول لها، جاء إيمانا من السلطات العليا أن الآثار السلبية للممارسات الإدارية على المستوى القاعدي قد ولدت حالة من الاحتقان، معبر عنها من خلال أعراض احتجاجية وصلت إلى حد الانتحار حرقا أمام العديد من مقرات الولايات والإدارات المحلية. ليس هذا فحسب، فلقاء وزير الداخلية بولاة الجمهورية شمل أيضا من بين محاوره الرئيسية تسريع وتيرة البرامج التنموية التي تشهد تأخرا في العديد من الولايات، ذلك لأن تحريك عجلة التنمية وخلق مناصب شغل جديدة من شأنهما وضع حد لمشكلات عويصة يعاني منها المواطن في حياته اليومية، منها على سبيل المثال بقاء مئات السكنات الجاهزة شاغرة دون توزيع في الوقت الذي يشتكي المواطن من أزمة خانقة في السكن....الخ. الثلاثية آلية اقتصادية لتحقيق توازن اجتماعي أما الوزير الأول أحمد اويحي، فقد سارع هو الآخر إلى عقد قمة الثلاثية التي تضم المركزية النقابية ومنظمات الباترونا لدراسة أهم الملفات الاقتصادية التي من شأنها المساهمة في امتصاص حالة الغليان في الجبهة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية، ولأن القطاع الاقتصادي بشقيه العمومي والخاص في حال استقراره وتأطيره له إسهام كبير في وضع حد للعديد من المشكلات، سواء ما تعلق بخلق الثروة أو توفير مناصب الشغل وتجفيف منابع البطالة، فقد توصلت الثلاثية إلى نتائج هامة رغم الانتقادات التي وجهتها لها أطراف سياسية على خلفية ما سمي رضوخ الحكومة لأرباب العمل على حساب الاقتصاد الوطني. والإشارة هنا تتوجه إلى قرار مسح فوائد ديون المؤسسات الاقتصادية الخاصة، والتي ستكلف خزينة الدولة آلاف الملايير من الدينارات، إضافة إلى تسقيف أسعار المواد الغذائية الرئيسية مقابل تخفيض أعباء الجباية عن المستوردين والمنتجين على حد سواء. إلا أن المتتبعين للواقع الاقتصادي يعترفون أن الاستجابة لمطالب أرباب العمل الخواص، لا مناص منه في ظل شح الاستثمارات الأجنبية التي عول عليها كثيرا في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، كما أن نتائج الثلاثية الاقتصادية قد تؤدي إلى توفير الأجواء الملائمة لتحريك المشاريع المتوقفة وتلك التي تسير بوتيرة بطيئة جدا، فضلا عن إسهام تلك القرارات والتوصيات في استقرار المناخ الاستثماري وإقحام القطاع الخاص في حركية التنمية الوطنية الشاملة. والواقع أن »المراجعات« التي عرفها القطاع الاقتصادي لن تؤتي أكلها ما لم تكن مصحوبة بتنقية القطاع التجاري وضبط السوق وتنظيمه وفق إستراتيجية واضحة المعالم تحدد علاقة الأطراف المشكلة للسوق من منتج أو مستورد وتاجر ومستهلك وإدارة. وهي أهداف جاءت من أجلها الجلسات الوطنية للتجارة التي نظمتها الوزارة المعنية، والتي يتوخى منها معالجة الفوضى التي تعرفها السوق الوطنية وأثارها السلبية على جيب المواطن ومنه تدهور القدرة الشرائية وتردي الوضع المعيشي في ظل تقلب الأسعار وغياب المراقبة. أزمة السكن..محرك الاحتجاجات الاجتماعية قطاع آخر لا يقل أهمية، والحديث هنا يتجه لقطاع السكن، حيث تم مؤخرا عقد جلسات وطنية للتعمير والبناء، ضمت مختلف الفاعلين في القطاع، بهدف البحث عن الإستراتيجية المثلى لتنظيم حظيرة السكن الوطنية ووضع الميكانيزمات والآليات التي تتيح التحكم في أزمة السكن وإيجاد الحلول الناجعة لها بإشراك كافة المعنيين بالأمر، ومعلوم أن أزمة السكن في الجزائر كثيرا ما كانت محركا للاحتجاجات في العديد من ولايات وبلديات القطر، مما يعني أن الإسراع بمعالجة الاختلالات في قطاع السكن والتعمير ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل أو التأخير. لكن برأي المحللين، فإن الإصلاحات في أي قطاع تبقى رهينة إشراك الحركة الجمعوية أو جمعيات المجتمع المدني بصفة خاصة والمواطن بصفة عامة، باعتباره محور أي إصلاح في المجتمع، ومن هنا باشر المجلس الاجتماعي والاقتصادي جلساته مع المجتمع المدني لإقحام وإشراك الشباب والجمعيات في تنفيذ ومراقبة مختلف المشاريع وفي كل القطاعات خاصة على المستوى المحلي. وفي نهاية المطاف يمكن القول أن التحرك الملحوظ للحكومة في الأشهر الأخيرة، يعكس تبلور قناعة لدى السلطات العمومية مفاده أن الوضع المتململ على مختلف المستويات يستدعي تدخلا عاجلا وعلاجا توافقيا لمختلف الفاعلين ليس على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فحسب وإنما على الصعيد السياسي كذلك.