نويت أكثر من مرة أن اكتب حول الأوضاع في ليبيا، حول نظام معمر القدافي والحراك في العالم العربي وكيف قسم الرأي العام في الجزائر، خاصة بعد أن لاحظت أن قوى يسارية ووطنية مهمة أخذت موقف الدفاع عن نظام القذافي، وشككت في نوايا هذا الحراك الذي يعيشه العالم العربي، بوحي واضح من نظرية المؤامرة التي لا يحصل بموجبها أي شيء مهم في المنطقة، إلا من تحت يد أمريكا والغرب الخفية . مواقف معادية ومشككة في هذا الحراك نجدها أكثر وضوحا لدى بقايا اليسار الجزائري الذي يبدو أنه لا يستسيغ كيف تحصل ثورة في العالم العربي وهو في حالة تقاعد، نظرة ليست بعيدة عن تلك الرؤية الاستشراقية التي لا تنتظر من العرب أن يقوموا بثورة أو أي حراك سياسي نوعي، فكل ما يستطيعونه هو نوع من الانتفاضات والتذمرات لا غير، فالثورة وجدت في الغرب وقد تكون موجودة في بعض دول أمريكا الجنوبية، لكنها بكل تأكيد لا يمكن أن تتواجد عند العرب، الذين لابد وأن يكونوا محركين من قبل يد خفية، كما حصل ذلك أكثر من مرة في تاريخهم السياسي الطويل . العرب الذين قسمتهم الأحداث الأخيرة التي يعيشونها لحدتها وقوة مفعولها وليس اليسار الجزائري فقط ، فمن كان يتصور منذ شهور أن يشاهد القذافي وهو يضرب ويهان ويغتال على المباشر ،من قبل شباب لم يعرفوا رئيسا ولا زعيما غيره على رأس ليبيا؟ ومن كان يعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تشارك فيه قوة عسكرية عربية قطرية أو أردنية أو إماراتية في ضرب التراب الليبي ؟ ومن كان يصدق منذ شهور قليلة أن تعيش ليبيا الهادئة حربا أهلية طاحنة وتدخلا عسكريا للحلف الأطلسي، بهذه القوة ؟ سرعة الأحداث وقوة تداعياتها في ليبيا تحديدا، هي التي قد تفسر كيف أثرت أكثر من غيرها على عقول وقلوب الجزائريين الذين انقسموا بحدة هم كذلك، في تقييمهم للأحداث التي تعيشها جارتهم ليبيا إلى درجة أن نسيان الجزائريين بسرعة لما حصل في تونس ومصر وتركيز اهتمامهم على ما يحصل عند الجار الليبي، بدءا من أعلي هرم السلطة .فما حصل في ليبيا على سبيل المثال أوقع الدبلوماسية الجزائرية في حالة شلل فعلي، جعلها تكتفي بالتذكير بمواقف مبدئية لا خلاف جدي حولها ، كرفض التدخل الأجنبي وضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية لليبيا ووحدة الشعب الليبي ..الخ. في حين كان مطلوبا من الجزائر مواقف أكثر براغماتية وقربا من الواقع ، دون التنكر لمواقفها المعروفة خاصة وهي تشاهد وصول قوات الحلف الأطلسي إلى حدودها الشرقية .أداء دبلوماسي في حالة دفاعية واضحة .لا يجب أن يستمر حتى لا يترسخ الاعتقاد بأن الجزائر الجامدة سياسيا تعيش حالة حصار، من محيطها العربي المتحرك . شعبيا كذلك حصل هذا النوع من الانقسام، بحيث نجد من لا يزال يدافع عن نظام القذافي الذي أفسد في الأرض لمدة أكثر من أربعة عقود. دفاع عن القذافي وصل حد اكتشاف ادوار ومهام للرجل تقدمه كمصلح وصاحب مشاريع قارية ، كتلك الحكاية التي تدعي أنه كان ينوي ربط القارة الإفريقية عن طريق استعمال أحدث التكنولوجيات وأنه قد ضرب من قبل الغرب بسبب هذا المشروع العملاق بالذات، في حين يقول الواقع لنا أن ملك ملوك أفريقيا كان أقرب في سلوكاته وتصوراته إلى بوكاسا وعدي أمين دادا، لمن لازال يتذكرهما ، مع وفرة مالية لم تكن موجودة لدى الرجلين، فالقذافي كان همه الأوحد هو الاستمرار في الحكم، بأي ثمن كان وتحت أي شعار أو مسمى . استغل القذافي ضعف الدولة في إفريقيا وتهافت نخبها وفسادها، لرشوتها للدخول معه في سياسة هي أقرب للمغامرة السياسية الممزوجة بالمزاح الصامط، كما فعل تماما لمدة أربعين سنة داخل ليبيا التي أفرغها من نخبها القليلة أصلا.ليبيا التي عرف ابن القذاذفة كيف يستغل تركيبتها القبلية الهشة، لصالح استمرار حكمه عن طريق الرشوة والفساد أو باستعمال العنف الفردي والجماعي. فالليبي كان غير آمن لا على عرضه ولا على ماله ونفسه، اقترب أو ابتعد من نار القذافي، نتيجة التسيير النزواتي للسلطة، الذي يمكن أن يحول الحليف والصديق إلى معارض، رأسه مطلوبة، في رمشة عين، هو وعائلته وأبناء قبيلته إن كانوا لازالوا يتذكرونه . هذه المعطيات الموضوعية المتعلقة بليبيا كمجتمع ودولة ونخب هي التي تفسر– لكنها لا تبرر دائما – لجوء المجلس الانتقالي إلى الاستنجاد بالحلف الأطلسي . زيادة بالطبع على الممارسات الدموية لنظام القذافي الذي كان يمكن أن يؤدي إلى حمام دم فعلي ضد الشعب الليبي، لو تركت الأمور على حالها دون تدخل أجنبي. فالليبيون يعرفون أكثر من غيرهم أن القذافي هو الذي ورطهم، تحت الإكراه ، على التحالف مع الحلف الأطلسي، في غياب تضامن عربي فاعل ، كان يمكن أن يكون سندا لهم في مواجهة القذافي الذي سهل مهمة التدخل الأجنبي برد فعله الغبي والمتعجرف في بداية الأحداث، بل استطاع القذافي تحريك حتى جثة الجامعة العربية الهامدة بزنقة زنقة وملايين الأنصار الزاحفين . الدرس الليبي يعلمنا أن "السكوت" عل الظلم والظالم لمدة طويلة ، كما حصل في ليبيا ، لأسباب موضوعية ، كضعف النخب والقوى الاجتماعية الفاعلة أو لأسباب ذاتية كالقبول بمنطق الرشوة والحلول الفردية، من قبل النخب. هذا "السكوت " سيدفع ثمنه الباهظ الجميع ، مهما طال الزمن .الدرس الليبي الذي يخبر الغافل كذلك ، أن مجتمعاتنا تعرف الكثير من الشروخ والانقسامات ذات الطابع الثقافي والاجتماعي، تجعلها قابلة للانفجار في أي لحظة، إذا لم نعرف كأنظمة سياسية ونخب كيف لا نتركها تتسع ونتفادى استغلالها خارجيا وداخليا . فمسامات مثل القبيلة والجهة واللغة والثقافة، يمكن أن تكون المنفذ لتدخلات أجنبية قاتلة تعيدنا إلى ما قبل الاستقلال والدولة الوطنية التي ضحت من أجلها أجيال. الدرس الليبي، كما كان الحال في العراق ، يخبرنا من جهة أخرى أن النظام السياسي الذي لا يصلح نفسه في الوقت المناسب ويتنازل لمواطنيه، سيتنازل وتحت الإكراه، للأجنبي في عالم لا يرحم وشرس. خاصة عندما يتعلق الأمر بمنطقة غنية وقريبة من شواطئ أوروبا، كما هو حالنا في العالم العربي، فقرب ليبيا وبترولها هو الذي يفسر جزء مهما من التدخل العسكري الأجنبي الذي مهدت له موضوعيا سياسة القذافي وليس المجلس الانتقالي الذي وجد نفسه مورطا في حرب أهلية غير قادر عمليا على أدائها دون مساعدة خارجية . أخيرا فإن الدرس الليبي يؤكد لنا حقيقية تاريخية وسياسية مهمة، كان قد تكلم عنها أحد المفكرين الغربيين، مفادها أن هناك دائما سياستان وليس أكثر في كل مجتمع ولدى كل سياسي ودولة، فإما أن تبنى السياسة على مكامن القوة وهي موجودة ومتوفرة في كل مجتمع، إما أن تنطلق وتبني على مكامن الضعف، الموجودة هي الأخرى، في أي مجتمع. الدرس الليبي يؤكد لنا أن القذافي بنى كل سياسته، لمدة أربعين سنة، على نقاط ضعف المجتمع الليبي الموجودة وتلك التي خلقها هو، فكان ما كان .فهل تبني جماعة المجلس الانتقالي سياستها على مكامن القوة الموجودة في المجتمع الليبي؟ نتمنى ذلك لصالح الشعب الليبي الشقيق .