لعل ما يميز حملة التشريعيات هذه المرة، مقارنة بكل الاستحقاقات الانتخابية التي مرت بها الجزائر، هو ذلك الاندفاع غير المسبوق من قبل تشكيلات سياسية وقوائم حرة إلى تطوير خطاب غارق في تسويق الوعود الخيالية بشكل يثير الدهشة والاستغراب، يضاف إلى ذلك التركيز الجنوني على الأفلان الذي تحول إلى هدف لعدد من الأحزاب السياسية التي عجزت حتى على تقديم مترشحين يحضون باحترام الجزائريين، ناهيك عن شروط الكفاءة العلمية والسياسية وحتى الأخلاقية.. قيل الكثير عن الحملة الانتخابية لتشريعيات العاشر من ماي المقبل، فبين الذين يرون بأن الحملة يعتريها الكثير من الفتور لأسباب كثيرة، وبين الذين يتهمون البعض بتطوير خطاب عنيف غير أخلاقي، هناك من يرى في خطاب الحملة، وربما خلافا لما كان عليه الحال في جميع الاستحقاقات التعددية التي عاشتها البلاد منذ أكثر من عقدين، بأنه غارق في وعود خرافية غير معقولة وتتجاوز بكثير حتى المنطق السليم، حتى لا نقول تتجاوز قدرات الجزائر كدولة، وربما تعجزعن تحقيقها دول أقوى وأغنى واكبر بكثير من الجزائر وأكثر منها تقدما وتطورا، فهذا مسؤول حزبي يزعم بان له القدرة على القضاء على الفقر خلال عام فقط، وكأنه يملك خاتم سليمان، يقلبه ذات اليمين وذات الشمال فتتساقط الأموال على الجزائريين، وذاك مسؤول آخر يعد الجزائريين بملايين المؤسسات الصغيرة للقضاء على البطالة وتمكين الشباب من بناء مستقبله بيده، وذاك مترشح من قائمة حزبية، فضل الكذب على الملايين من خلال وعوده ببناء ملايين السكنات الاجتماعية للقضاء على مشكل السكن الذي يؤرق السواد الأعظم من الناس. ولن يتسع المقام هنا لسرد كل الأكاذيب التي يسوقها البعض على المباشر دون خوف من السؤال عنها في المستقبل، خاصة وان أحد الزعماء الجدد قضى عهدتين كاملتين بالغرفة السفلى للبرلمان ممثلا لأحد الأحزاب، ولم يقف ولو مرة واحدة للدفاع عن انشغالات الناس أو خدمة مصالحهم، فكيف له أن يخدمهم هذه المرة، ومن الذي تغير حتى تحول هذا الشخص أو غيره من متبجحين بالعهدة ومزهوين بالراتب المغري والحصانة البرلمانية التي تتيح له مضايقة الوزراء والضغط على بعض المسؤولين المحليين انطلاقا من قبة البرلمان، حتى يتحول إلى إنسان »خادوم« يتباكى على أحوال الجزائريين ويصبو إلى العودة إلى الهيئة التشريعية من أجل تحقيق التنمية ورفع الغبن عن الجزائريين كما يزعم؟ عيب هذه الحملة ليس فقط في التوصيفات التي ذكرناها، ولعل أكبر عيوبها في كون بعض منشطيها لا هم لهم غير التحامل على حزب جبهة التحرير الوطني، وليست الأحزاب الصغيرة هي وحدها من وجد في الحزب العتيد هدفا لتوجيه سهام النقد، خصوصا في ظل افتقار أغلب التشكيلات السياسية المتنافسة لبرنامج انتخابي متكامل، بالمعنى الصحيح للكلمة، فهذا ما يسمى بتحالف الجزائر الخضراء المشكل من حمس والنهضة وبقايا بحركة الإصلاح الوطني وقد حول الحزب العتيد إلى هدف له، وها هي لويزة حنون وقد حملت الجبهة تبعات كل المشاكل التي عاشتها البلاد منذ الاستقلال، مع أنه كان عليها على الأقل، إن كانت تعتقد فعلا بأن الأفلان الذي حكم منذ استقلال البلاد، أن تعترف لهذا الحزب بكل الانجازات التي تحققت منذ خروج المستعمر إلى غاية الآن، ولا داعي هنا إلى العودة إلى بعض التشكيلات على غرار حزب عمارة بن يونس الذي يريد إحياء أطروحة المتحف التي عفا عليها الزمن من خلال مزاعم بأن الأفلان هو إرث مشترك لكل الجزائريين شأنه شأن ثورة التحرير. مهاجمة الأفلان الذي تحول إلى برنامج لدى البعض له أسبابه، ولعل أهم هذه الأسباب تكمن في أن البعض لا يجد ما يخاطب به الجزائريين، فيلجأ إلى قاموس الشتم والسباب والتحامل والكذب المباشر، اعتقادا منه بأن المواطن سيصدق حتما في ظل المشاكل اليومية التي يواجهها في مجالات مختلفة كالشغل والسكن والتهميش..الخ، ويخطئ أصحاب هذه الفلسفة في إدارة الحملة عندما يتوهمون بأن الجزائريين سوف ينساقون وراء من يشتم أكثر الأفلان وينال أكثر من سمعته ومن تاريخه، فالتجربة المريرة التي مرت بها الجزائر خلال مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، ثم مرحلة الفوضى والاستئصال التي تلتها في ظل إقصاء جبهة التحرير من المسرح السياسي، تركت انطباعا خاصا عند المواطنين الذين اقتنعوا أكثر من أي وقت مضى بأن الجبهة هي أكبر من حزب، فهي صمام أمان وعامل توازن واستقرار في الجزائر، فخطها الوطني الوسطي هو وحده القادر على حماية الجزائر من كل التطرفات سواء كانت من أقصى اليمين أو أقصى اليسار. مع هذا لا يبدو أن مشكل حملة التشريعيات هو في طبيعة هذا الخطاب، بل لا يكمن مشكل الاستحقاق التشريعي حتى في دعوات المقاطعة التي تبناها الأرسيدي ولم يقدر على النزول بها إلى الميدان كما بظهر من خلال المسيرات المحتشمة التي حاول تنظيمها بمنطقة القبائل رفقة الحركة من أجل الاستقلال الذاتي لمنطقة القبائل، أو تلك التي تدعو إليها الجبهة الإسلامية المحلة، والتي ركب موجتها تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي الذي أطل على الجزائريين الذين يكفرهم ويحل دمهم، بالدعوة إلى هجران مكاتب التصويت، لأن الانتخابات، حسب زعم تنظيم عبد الملك درودكال، لن تغير أي شيء من حالهم، المشكل الحقيقي يكمن في بعض الأحزاب التي تساوم باسم التغيير وتتوعد الجزائريين بالفتنة في حال لم تحصد أغلبية المقاعد خلال التشريعيات المقبلة. فالإستراتيجية التي يعتمدها تحالف الجزائر الخضراء في مخاطبة الجزائريين سوف تعود على أحزابه في المستقبل، فهذا التحالف المشكل من حزيبات تتوفر على وعاء انتخابي جد متواضع، هذا إن تحدثنا عن حركة حمس، وأما النهضة وبقايا الإصلاح فإن هذا الوعاء غير موجود أصلا، يتبنى أسلوبا فيه نوع من الابتزاز، فيه محاولة لإيهام الجميع بأن التغيير يعني حصد الإسلاميين لأغلبية المقاعد، وهكذا فإن الجزائر هي مخيرة بين أن تستسلم لهذا التيار وتمنح له الأغلبية رغم أنف الأغلبية وإلا أجبرت على دخول الفتنة التي يسميها هؤلاء بالربيع العربي. ويخيل لكل من يتابع موجات الاحتجاج التي تجتاح الشارع في هذه الأيام بأن الشارع قد تحول إلى أحد أدوات التحريك تمهيدا لسيناريو ربما يجري إعداده لما بعد الانتخابات التشريعية، فمن غير المعقول أن تجتاح الشارع شرائح مهنية تمت تلبية أهم مطالبها المتعلقة خصوصا بالأجور، ومن غير الممكن أن نفهم مطالب بعض القطاعات التي لا يمكن إلا أن نوصفها بأنها خيالية وتعجيزية، ومن حق كل الجزائريين أن يتساءلوا في ظل هذه الأجواء عن طبيعة الخلطة التي يتم الترتيب لها في الداخل أو في الخارج.