هل فضَّل الفلسطينيون الانتحار في سجنيهما غزة والقطاع على الاستشهاد فوق أسوار الأقصى المحررة؟ وهل أبحر زعماء الطوائف السياسية الفلسطينيون بشعبهم إلى غير وجهة الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة؟ يبدو أن هذه الصورة هي الأقرب إلى الحقيقة! انتكس الفلسطينيون وتفسّخوا كما تفسّخ أشقاؤهم العرب، ولم يستطيعوا تصويب سلاحهم إلا إلى صدور بعضهم وراحوا يمارسون لعبة الانتحار المجاني في أكبر ُفرْجة دراماتيكية تحدث لحركة من حركات التحرر في التاريخ المعاصر، وأعطوا دليلا - لمن لا يحتاج إلى أدلة - على قصر نظر ساستهم أو حَوَلِهم إن لم يكن قد ضربهم العمى في عز العركة، وقد أخرج زعماء الزمن الفلسطيني البائس والعربي الحالك الفلسطينيين من فلسطينيتهم وألقوهم في بئر لا ماء فيها ولا هواء ولا يدا ممدودة. لم يكن ما وقع من تصدُّع للصف الفلسطيني إلا حلقة في سلسلة المؤامرات التي حيكت للأمة العربية منذ أن آمنت –حكاما ومتحكمين- بتشرذمها كحتمية لربح معركة فلسطين، وإذا كانت القضية الفلسطينية قد شهدت في فترات متقطِّعة لحظات مدٍّ فبفضل بعض الرجال الذين لم يكونوا كمَن نرى، جاد بهم الزمان ثم انكمش عليهم لنعيش انحسار النضال والكفاح المسلحيْن بمبررات الواقعية والنفعية التي أصبحت في التداول السياسي تعني التفريط في الحق والتبعية للعدو ومحاربة الشقيق، ويمكن أن يؤرِّخ الانهزاميون لتاريخهم المظلم في النهار المشرق بداية من مفاوضات مدريد المشئومة التي أحضرت إليها الإدارة الأمريكية الظالم والمظلوم والشهود على المظلمة ولكنها انتقلت من خانة الحَكَم المحايد إلى الشريك المعادي ابتداء من تسعينيات القرن المنصرم ومرورا بالسقوط المخزي في مستنقعات أوسلو إلى التجميع القسري الذي حدث للعرب في أنابوليس، فمنذ ذلك الحين تقلصت الجغرافيا الحقيقية حيث ابتلعت المستوطنات السرطانية كثرة كثيرة من الأرض، وقتل الرصاص آلاف الضحايا الذين ُأزهقت أرواحهم ظلما وعدوانا، أي أن الذي لم يؤخذ بقوة التدمير والإرهاب الصهيونية ضاع على موائد المفاوضات الافتراضية التي لم ينل منها الفلسطينيون غير الوعود المؤجلة التي زرعت الإحباط في أجيال كثيرة قد لا تجد ُبدا من الانخراط في التطرف المفرط الذي يتكئ على مقولة اليائس: عليَّ وعلى أعدائي . في الزمن العربي المحزن والفلسطيني المُدْمِي يتبادل فصيلا المقاومة الفلسطينيان فتح وحماس عمليات القبض كل على أنصار غريمه" الشقيق"، ولا يستحيان في أن يبرر كل منهما- لمن استهجن هذا السلوك الشاذ واستنكره-أن حملته المظفرة جاءت ردا على الفعل المقابل فقط، وتزداد المأساة إيلاما عندما نرى الأخ يهرب من" بطش" أخيه إلى" رحمة "عدوه الذي يوعز إلى بعض منظماته للتحرك كي تتقمص دور الإنساني الحريص على أرواح العابرين من سجنها المفتوح إلى الأرض السجينة، فتدعو إلى عدم إعادتهم إلى حيث الخطر ينتظرهم في غزة! وتنقل بعضهم حفاة عراة في أسوأ مشهد إهانة على مرأى العالم ومسمعه إلى شريكها في رام الله. عندما وجه الفلسطيني بندقيته إلى رفاقه المرابطين ِمن حوله أوجس الشعب الكبير خيفة من أن قاطرته تكون اُختطفت وُحوِّل مسارها وقد أكدت ذلك أنانية الحكم المحلي- في الإقامة الجبرية للسلطة - الموروثة عن الحكم العربي العام، فتعمَّقت الفجوة وظلت تتسع بين الفلسطيني ونفسه في الجزيرتين المحاصرتين المدعوتين غزة والقطاع، وأبعدته عن حقه الذي أضاعه السفهاء على امتداد ستين عاما مضت، ولم يستطع عرب هذا الزمان أن يحافظوا على الإرث المقدس كما يفعل الرجال، فقد تخلت مصر-أم الدنيا- عن دورها المركزي في القضية وتحولت إلى مجرد وسيط سلبي أضر بالقضية في أحايين كثيرة خارج الإرادة الشعبية وتحت مبررات الالتزام باتفاقيات سلام استدلت السياسة الرسمية - في سلامة نهجه - بإعادة سيناء التي عبر عنها المصريون بقولة شاعرهم الشهيرة: النصر النصر عادت سيناء وراحت مصر! وانتقلت العربية السعودية من الساعد المالي الدائم والسند الروحي الثابت والموقف الملتزم الدائم بنصرة قضية العرب والمسلمين الأولى إلى نصرة مَن ترضى عنه اليهود في تل أبيب والنصارى في أمريكا ومعاداة من تعاديانه! والدول الثورية-سابقا- التي كانت منصة إقلاع الفلسطيني نحو هدفه لم تعد لها مكانة في خارطة السياسة الفاعلة، ولم يصبح للشعب الفلسطيني من نصير يسند ظهره غير الشعوب المقهور معظمها بالتخلف والفوضى والاستبداد، ولم يبق له من خيار إلا أن يعلنها انتفاضة عاصفة تجتثُّ كل الدجالين الذين نفذوا- بوعي أو عن غير وعي- مخطط الكيان الصهيوني الإرهابي، ولا تنتهي إلا بإزالة جميع آثار الاحتلال، وليكن الشعب واحدا من أجل مشروع واحد هو التخلص من الاحتلال أولا، ولا صوت يعلو – قبل تحقيق هذا الهدف-فوق صوت الوحدة والمقاومة والاستشهاد من أجل تحرير فلسطين كل فلسطين كما كان شعار هذا الشعب العظيم قبل استسلام قادته وزعمائه... [email protected]