لما حطت وزيرة الداخلية الفرنسية الرحال بمطار هواري بومدين، كان الجدل حول الماضي الاستعماري على أشده على خلفية الاحتفالات المخلدة لذكرى مجازر الثامن ماي45، لكن ما يهم ميشال أليوماري ليس سعي الجزائريين لانتزاع اعتراف فرنسا بجرائمها وإنما ما يوفرونه من عون لإنجاح ما يسمى بمشروع "الإتحاد من أجل المتوسط" ولمحاصرة ظاهرة الإرهاب. وصفت الزيارة التي قامت بها وزيرة الداخلية الفرنسية للجزائر بالهامة جدا بالنظر إلى حساسية الملفات التي طرحت للنقاش بين البلدين. فوزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني الذي قلما يصرح لوسائل الإعلام خارج نشاطاته الرسمية، استبق الحدث وأكد لوسائل الاعلام، دقائق قبل وصول ضيفته بأن الزيارة تدخل ضمن نطاق التشاور بين وزراء داخلية المتوسط، مضيفا أنه إلى جانب مسألة التنسيق الأمني، تخدم الزيارة العلاقات الجزائرية - الفرنسية. ميشال أليوماري قالت بدورها بمجرد الوصول إلى الجزائر بأن ملفات الإرهاب والجريمة المنظمة والكوارث الطبيعية تحظى باهتمام بالغ من الطرفين، وعبرت عن رغبة باريس في الاستفادة من الخبرة الجزائرية في مكافحة الإرهاب على اعتبار أن الجزائر دولة محورية في هذه الحرب. وزيرة الداخلية الفرنسية جاءت إلى الجزائر "للتجارة" أيضا على طريقة ساركوزي، فنجحت في إبرام عقد بمليوني أورو يتم بموجبه تحديث الحماية المدنية، وجاءت أيضا "للإستفسار" حول وضعية المسيحيين بالجزائر، فذهبت أليوماري بقلب "محزون" على المنصرين إلى وزير الشؤون الدينية غلام الله، فسمعت الرد من زرهوني الذي أكد بأن قانون ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين هو قضية سيادة، وأن المسيحيين ليسوا مضطهدين كما يدعي غلاة التنصير. لقد رافعت الوزيرة الفرنسية لصالح مشروع ساركوزي الذي تحول من أجل عيون ميركل من مشروع الإتحاد المتوسطي، إلى الإتحاد من أجل المتوسط، وقالت بصريح العبارة أن هذا الحلم لن يتحقق دون الجزائر، وقد فهم الجزائريون الرسالة. ففرنسا تريد أن تكون الجزائر تابعا في مشروع تمنح فرنسا قيادته للمغرب أو تونس أو ربما مصر، خاصة وأن مصادر عليمة تقول أن الرئيس بوتفليقة رد صراحة على باريس بأن الجزائر لن ترقص مع الراقصين للمشروع الفرنسي وفيهم دويلة بني صهيون التي تبيد الفلسطينيين في غزة. النفاق الفرنسي هو الذي جعل ميشال أليوماري تدعي بأن موقف باريس من قضية الصحراء الغربية لا يخرج عن الإطار الأممي، في حين الكل يعرف بأن فرنسا هي أكثر المساندين للسياسة التوسعية للرباط، فهي التي آزرت المغرب لما كان محاصرا دبلوماسيا قبل أن تلتحق بالركب واشنطن، وهي التي تعلن جهارا نهارا أنها مع الحكم الذاتي في الصحراء وتضرب عرض الحائط بنضال الشعب الصحراوي من أجل تحقيق مصيره. فرنسا نصبت نفسها محاميا على نظام المخزن في الرباط، فهي لما تناصر التكتل المغاربي خدمة لمصالحها الاقتصادية، تسعى لكي لا يخسر المغرب أسنانه في معركته الدبلوماسية مع الجزائر، ذلك أن النصرة الدبلوماسية للقوى الغربية هي التي جعلت فالسوم يتعرى أمام العالم ويساند الطرح الاستعماري في الصحراء، وهي التي جعلت الفاسي الفهري وزير الخارجية المغربي يعاود الكرة للمطالبة بفتح الحدود مع الجزائر بعد لقاء جمعه بالقائم بالأعمال الجزائري في الرباط، وهو يدرك جيدا بأن التعويل على الضغط عبر وسائل الاعلام لن يجدي نفعا بعدما رفضت الجزائر فتح الحدود، من دون دراسة جدية لكل الملفات العالقة بين البلدين، علما أن "مبادرة" الفهري جاءت متزامنة مع التهويل المغربي لقضية النشيد الوطني المغربي المعروفة، مما جعل قصة النوايا الحسنة أكذوبة لا تنطلي على الدبلوماسية الجزائرية. أليوماري لم تعتذر هي الأخرى للجزائريين، فخاب ظن الذين فسروا تصريحات السفير الفرنسي برنار باجولي من جامعة باتنة على أنها اعتراف فرنسي بالجرائم النكراء التي ارتكبت في الجزائر ابان الحقبة الاستعمارية، وقد تفطنت وزارة المجاهدين لخدعة باجولي وقدرته على التلاعب بالكلمات، وعلى كل حال احتفل الجزائريون بذكرى مجازر الثامن ماي 45 بنفس الرتابة المعهودة، أي عن طريق المهرجانات والخطب الرسمية التي تتخذ من طالب الاعتذار عادة كمن يشحت لدى البخيل. وحتى لا تغمر بعض الجزائريين الفرحة لدى سماعهم الوزيرة ميشال أليوماري وهي تقول بأن فرنسا تريد الاستفادة من خبرة الجزائر في مكافحة الإرهاب، يجب وضع جملة من الملاحظات، أهمها أن باريس لم تعد ترى في الجزائر إلا كشريك فيما يسمى بالحرب على الإرهاب شأنها شأن أمريكا لكن الواقع يبين بأن حرب الجزائر ضد الارهاب إنما تخوضها لوحدها، حتى لا نقول تخوضها في ظل وجود أيادي كثيرة تريد العبث بأمن واستقرار الجزائر، فتشعل الحرائق هنا وهناك، أو تهول من ظاهرة الإرهاب فتحول الجزائر إلى بلد لا يختلف كثيرا عن أفغانستان أو العراق. الخارجية الأمريكية تعد قتلى الإرهاب في الجزائر ونتحدث عن 1100 خلال سنة 2007 فقط، ولا ندري من أين سقط هذا الرقم الذي يوحي وكأن البلد قد تحول إلى ميدان لحرب طاحنة، لكن في المقابل، تحرك الآلة ضد الجزائر التي تتهم تارة بإخفاء الحقائق حول الوضع الأمني ويطالبونها بتحديد موعد لرفع حالة الطوارىء، وتحرك الآلة أيضا ضد خيار المصالحة الوطنية. لكن، ورغم محاولات النفخ في جسد الارهاب، عبرت الجزائر من جنيف مجددا عن إرادتها في استكمال عملية المصالحة التي تلتف حولها جميع الفعاليات من الأرندي وصولا إلى جمعية العلماء المسلمين التي دعا شيخها عبد الرحمن شبان مؤخرا المغرر بهم إلى التوبة والاقلاع عن استباحة دماء المسلمين. ويبدو من جهة أخرى، أن نار الحرائق تأبى أن تنطفىء، فبعد بريان وتيارت وقديل، ها هي قصر البخاري تدخل معمعة ثورة الشارع، وحتى لا نبقى مشدودين فقط إلى أطروحة "المؤامرة"، يجب الإعتراف بأن التسيير المحلي له دورمحوري في إلهاب المواطنين والزج بهم في متاهات المواجهة. مشكل التسير قد يفسر إلى حد ما الحركة الأخيرة التي أجراها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سلك ولاة الجمهورية، والتي مست عشر ولايات وتراوحت بين الترقيات والنقل والعزل، في انتظار حركة أخرى سوف تمس مستقبلا الأمناء العامين للولايات ورؤساء الدوائر. والظاهر أن الاحتفاء بمهنة المتاعب هذا العام جاء كبيرا، عبر الاهتمام الذي يوليه عبد الرشيد بوكرزازة لقطاع الإعلام والإتصال منذ أن عين على رأسه، فالمطبعة التي دشنها الوزير بورفلة هي بحق إنجاز إعلامي كبير لجنوب البلاد الذي كان لا يقرأ إلا "الأخبار المجمدة"، ذلك أن الحق في الثروة لا يختلف عن الحق في الاعلام المكفول بموجب الدستور، كما أن الوزير كان قد كشف خلال منتدى التلفزيون عن مكاسب جديدة لقطاع الاعلام، فتحدث عن حماية الصحفي وضمان حقه في التكوين المتواصل وعن مجلس أخلاقيات المهنة وعن قانون الاشهار الذي سيأتي دوره إلى جانب قانون الاعلام، فالمهم بالنسبة لبوكرزازة هو أن يرقى أهل مهنة المتاعب إلى الصف الذي يستحقونه، وهذا لن يأتى - كما قال رئيس الجمهورية- إلا من خلال تخليص قطاع الاعلام من الطفيليين الذين حولوا الصحافة من مهنة نبيلة إلى سمسرة وتجارة مربحة، ولن يكون أيضا إلا عبر بناء منظومة إعلامية تميزها الاحترافية، كما أكد أمين عام الأفلان عبد العزيز بلخادم خلال الندوة الفكرية التي نظمها بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير. المشهد السياسي خلال الأسبوع الفارط طغت عليه مسألة أخرى تتعلق بالنشاط الحزبي، بحيث نجح أبو جرة سلطاني في افتكاك "عرش" حمس بعد انسحاب غريمه الوزير السابق عبد المجيد مناصرة من السباق على رئاسة حركة مجتمع السلم، وهو النجاح الذي يدعم خط أنصار بوتفليقة داخل حزب الراحل نحناح، حتى وإن كان يهدد خليفة الشيخ بفقدان منصبه في الحكومة. وإذا كان هذا هو حال حركة حمس مع مؤتمرها الذي انتهى بسلام وخرج زعميها من وسط غبار المعركة قويا ومعافى، فإن حال حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية يشفق عليه كل عارف بعالم السياسة و"مهنة" التحزب وفنون النضال، فحزب سعدي كلف نفسه بمهمة أخرى بعدما خاض "نضالا" من نوع جديد خارجيا، فبعد الجولة التي قادت سعيد سعدي، زعيم الأرسيدي رفقة وفد من حزبه إلى كندا والولايات المتحدةالأمريكية، ها هو يحط الرحال ببروكسل مقر الإتحاد الأوروبي واللجنة الأوروبية، وبعد لقاءات مكثفة ومحادثات مع العديد من الشخصيات، كشف الأرسيدي عن المهمة التي ذهب من أجلها إلى بلجيكا، مهمة لخصها في استجداء عظماء القارة العجوز لكي يمارسوا الضغط "المطلوب" على الجزائر وجعلها تقبل الديمقراطية على طريقة "برفيز مشرف" في باكستان وكرزاي في أفغانستان! وفد سعدي أبلغ الذين "تعلقت قلوبهم بالديمقراطية والحرية" في الجنوب البائس، بأن تعديل الدستور والسماح لبوتفليقة بالترشح لعهدة رئاسية ثالثة يشكل خطرا دائما على استقرار الدولة، قالها في بروكسيل ولا ندري لما لا يروج لطروحاته في الجزائر أو حتى في معاقله بمنطقة القبائل؟