كشف العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، من بين ما كشف، أن العرب لا يفكرون في غدهم، فقط يفكرون في كيفية تمضية يومهم أما الغد فهو في حكم الغيب ولا يعلمه إلا الله• ومع أن مثل هذا الفهم ليس من التدين في شيء بقدر ما هو منتهى العجز والشلل إلا أن العرب يصرون على استدامته والتمسك به، إنه الطبع الذي يغلب التطبع، حسب تعبير ذلك العبقري إبن خلدون• دافعي للتذكير بهذا الواقع الأليم والمحزن أن العدوان على غزة زاد من كشف العورات وفضح كل المستور وجعل العرب عراة مع أنهم يقتنون أغلى الثياب وأشيكها •••كيف؟ إحدى جوانب الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وما بقي من النزاع العربي -الإسرائيلي، يتمثل ليس فقط في موازين القوى التي تخضع لعوامل محلية ودولية••• إنما كذلك في الخلل الكبير في لعبة التوازنات بالمنطقة وهي أيضا مسألة إن كانت إسرائيل تعرف كيفية استغلالها فإن العرب يحسنون جيدا كيفيات تضييعها وهنا أحد أوجه مأساتنا• غير أن العدوان الإسرائيلي على غزة مع ما أسفر عنه من تقتيل وتدمير وحجم المأساة الإنسانية التي خلفها أدى ليس فقط إلى تحرك الرأي العام الدولي الذي كان تقليديا دوما في صالح إسرائيل ليتحول ضدها، إنما بالإضافة لذلك أدى إلى تغير جذري بمواقف دول في المنطقة كانت لوقت قريب قريبة من إسرائيل بعيدة عن العرب وعن قضية فلسطين، أعني بذلك الموقف التركي الذي كان مع الأسف صيحة في صحراء قاحلة جدباء، موقف لم يجابه فقط باللامبالاة العربية في المنطقة إنما بالسعي لإجهاض كل التأثيرات الممكنة له على المستوى الإقليمي ولسخف الأقدار ظهرت تركيا وكأنها دولة معادية لإسرائيل بل وكأنها دولة مواجهة••• في نفس السياق ارتفعت صيحات التنديد بإيران والتحذير من خطرها على استقرار المنطقة، أية سفاهة تضاهي هذه السياسات العربية قصيرة النظر المحدودة الأفق في ظرف عصيب من صيرورتنا نتعامل معه بجمود وببلاهة لا تستدعي الشفقة بقدر ما تستوجب اللعنة•• أود القول أن لعبة التوازنات هي فن يستوجب الكثير من الذكاء ومن بعد النظر وأيضا من الخيال والنباهة، والعالم العربي مع الأسف يفتقد كل هذه المقومات وجميع هذه الصفات••• منذ ثلاثين سنة كانت إيران الشاه حليفة لإسرائيل، انطلاقا من كونها دركي الغرب وواشنطن بالذات في الخليج، وكان المشرق العربي بين فكي كماشة إسرائيل غربا وإيران شرقا وكان "السافاك" وهو البوليس السري لنظام الشاه مثله مثل "الموساد" تنظيما وتعاونا وتكاملا•• أما تركيا فكانت هي الأخرى معادية من خلال تهديدها للعراق ولسوريا ومع بقية العرب كانت العلاقات عادية وأحيانا فاترة•• وفي خمسينات القرن الماضي، كانت إيران وكانت الباكستان وكانت العراق، كما تركيا منضوية ضمن الحلف المركزي أو ما يعرف اصطلاحا باسم حلف بغداد بالإضافة لكون أنقرة عضوا أيضا في الحلف الأطلسي•• ودوما كانت الولاياتالمتحدة كما بريطانيا هما منشطا هذه المنظمة•• دون التذكير بالتفاصيل ودون الدخول في مبررات إنشاء ذلك الحلف الذي كان في الأساس ضمن الطوق الذي أوجده الغرب إبان الحرب الباردة لمحاصرة الإتحاد السوفياتي حينئذ •• فإن ما نعيشه اليوم هو زوال ذلك الحلف كما زالت بعده بعقود الكتلة الإشتراكية بأكملها، غير أن سخف الأقدار شاءت أن يعود العراق الذي كانت ثورته سنة 1958 السبب المباشر لزوال حلف بغداد، أن يعود للفلك الأمريكي بعد غزوه سنة 2003!! إن التوازنات، عودة إلى الموضوع، الإستفادة منها، خلقها، أو التفاعل معها إيجابيا والعمل على استغلالها•• يبدو أنها لدى المتعامل العربي صانع القرار بعيدة إن لم تكن منعدمة في تفكيره وتصوره وفي معاملاته السياسية والديبلوماسية، هذا الحكم الذي قد يكون قاسيا وقد يكون سطحيا وقد يكون متسرعا •••هو مع الأسف تكشفه بل تفضحه طريقة التعامل مع العدوان على غزة•• سواء كان الأمر يتعلق بالعواصم العربية على حدة أو بما يسمى الجامعة العربية، فقد كان التحرك عبارة عن شتات إن التقى بالصدفة عند نقطة ما فهو سيتشتت ويتفرق وأمام نقاط كثيرة•• ما المانع، رغم الاختلافات والتناقضات الموجودة بالفعل، والمصطنعة، أن يكون هناك حوار مستمر مع جمهورية إيران مثلا حول القضايا المشتركة بعيدا عن القضايا الخلافية، والسعي لإقناعها أن مصلحتها وهي تعادي الغرب عموما والولاياتالمتحدة بالأخص، في إزالة أسباب التخوف الخليجي وأن تثبت أنها جارة إن كان لديها الطموح لدور إقليمي فإن ثقة العرب، وليس الشك هو العامل المساعد في تحقيق هذه الغاية؟ ما المانع، للسعي نحو تمتين العلاقات العربية الباكستانية ومساعدة هذا البلد الإسلامي الكبير ذي القدرات النووية على مواجهة متاعبه الإقتصادية والمالية والتضامن معه وهو يتعرض لضغوط وتهديدات حتى من حليف الأمس واشنطن التي لولا مستنقع أفغانستان لربما عمدت إلى إزالة الباكستان وتدميرها؟ وحين تأتي تركيا اليوم لتعيد اندماجها في منطقتها وفي مجالها الحضاري والجغرافي في ظرف أليم يتعرض له الشعب الفلسطيني وهي تمتلك مقومات إيجابية اقتصاديا وصناعيا وحتى عسكريا، فإن الأمر لا يتعلق بالثأر من لورانس العرب في بدايات القرن الذي مضى •• وإنما مساهمة معتبرة ربما في محو بعض آثار ديبلوماسية إدارة بوش التي نسجتها كاتبته للخارجية التي أصبحت بالفعل، مثل لورانس، رئيس العرب!! حين تقلد بوتين، زمام السلطة في روسيا منذ عقد تقريبا، وجد بلدا محطما مريضا لم يتعرض للمهانة فحسب بل كان شبه مفلس وكرجل قادم من الصقيع استطاع وبذكاء ومهارة أن يجمع شتات بقايا بلد على وشك الانهيار، حقق قفزة اقتصادية كما حقق رخاء ماليا واستعمل الغاز كسلاح ضغط لكن أكبر نجاحاته في مواجهة الخصم التقليدي كانت لعبة التوازنات فقد استغل المستنقع العراقي كما المستنقع الأفغاني الذي كانت واشنطن غارقة فيهما لاستعادة المواقع وإعادة الحياة للدور الروسي والقيام بهجوم مضاد ذكي، ولمواجهة الدرع الصاروخي نصب صواريخ عابرة للقارات في كالنغراد وأعاد الأسطول الروسي للمحيطات بل قام بخطوة استفزازية حين أرسل قطعا بحرية لإجراء مناورات مشتركة مع فنزويلا متجاهلا بذلك مبدأ مونرو، وها هو خليفته اليوم يواصل نفس النهج، ولعل الحرب على جورجيا كان رسالة مشفرة فهمها أولئك الذين وجهت لهم •• كما أن دفع جمهورية قرغيزيا بعدم تجديد اتفاقها مع واشنطن حول استعمال قاعدة جوية في هذا البلد الصغير يندرج ضمن هذه الإستراتيجة في بناء توازن جديد•• مع الأسف العرب لا يدركون هذه القاعدة البسيطة لا شيء ثابت في السياسة والعلاقات الدولية وكل شيء متحرك فقط المصالح هي الباقية وهي تنمو باستمرار وهي ليست مثل الحب في الفهم الرومنطيقي، بل هي مثل الزواج الكاتوليكي يخضع للمنافع حتى وإن حدث الانفصال الجسدي••!