آلاف الشباب صنعوا مشاهد فرحة الجزائر بفوز منتخبها على منافسه المصري، ملأوا الشوارع والطرق والأزقة، وغيّروا روتين يوميات الجزائري لتمتزج بالأهازيج والراية الوطنية، علّقوها في السيارات، في العمارات، في كل شجر وحجر، أحيوا أيامها ولياليها قبل اللقاء الكبير دون إحباط، وكأنهم كانوا متأكدين من الفوز الساحق، حتى إن ممارستهم هذه لطقوس المناصرة ومظاهر حب الوطن أبهرت الشارع المصري المدفوع بحب يقدّس أنانيته إلى حد النرجسية وإلغاء الآخر، فمصر أم الدنيا، ليقولوا وبصوت واحد إن الحرفة انعكاس لفشل ما، في موقع ما• وبقدر الانتصار الكبير الذي أنجزه المدرب سعدان، وأعاد أفراح 82 في إسبانيا و86 في المكسيك بعد أكثر من 20 سنة إلى الواجهة، فإن الشباب الذي كان من الممكن أن يكون ضمن قوافل الحرافة في أية لحظة، أكد للجميع أنهم جزائريون ووطنيون مخلصون ودون مقابل، لأن الكثير من الناس يحددون درجة ولائهم للوطن بدرجة المكاسب المحققة فيه، كما أكدوا أنهم حرافة للواقع المتشائم والإحباط الذي كان يسود النفوس قبيل المقابلة، فثارت مشاعرهم قبل الأوان، ونشّطوا أجواء المدن والمشاتي بتلقائية متناهية، وكانوا اللاعب رقم ,12 كما يقال بالفعل، فور بداية المواجهة، وهو ما أشاد به المصريون أنفسهم في تحليلهم لعوامل خسارتهم المفاجئة، وضحوا بعدها بشبان في ربيع عمرهم ذهبوا في غمرة الفرح، على غرار آخرين كانت نشوة الانتصار أكبر من قدرة تحمّلهم وأسرع وقعا من رتابة دقات قلوبهم• الانتصار الرياضي الكبير، الذي فتح أعين الجزائريين مجدّدا على المحافل الكروية الإقليمية والدولية وطرح بقوة، وبعد سنوات من العمى والتيهان، شرعية تطلع الجزائر إلى التنافس على كأسي إفريقيا والعالم، أضاء من حوله نقاط ظل كثيرة وغرس بذرة أمل أخرى، تضاف إلى ما تحقق في سياق إعادة بعث الجزائر بعد أزمة قتلت كل متحرك، والتطلع إلى مستقبل أفضل• ولا يختلف اثنان في أن فوز الجزائر صنع الأفراح في كل ربوع الوطن، وحرّك مشاعر الاعتزاز بالنفس وبالانتماء، وهو ما عبّر عنه تداعي الجالية المقيمة في الخارج لهذا الانتصار، حتى إن البعض اعتبر الرياضة أكبر حزب في البلاد يمكنه أن يوفر هذا التجنيد ويوحّد الأحاسيس والمشاعر، غير أن الجميع لا يختلف أيضا في أن وراء هذا الحزب ''الكبير'' حزب ''صغير'' أحسن اختيار الرجال لخوض هذه المعركة، على غرار الخيارات الأخرى المعتمدة هنا وهناك، فسعدان رابح كان بيننا منذ أكثر من 20 سنة وظل خارج معادلة الفوز، رغم أنه كان أحد صنّاعه، شأنه شأن خالف محي الدين، ''تمرمدوا'' في الداخل والخارج، دون أن يقدّر أمرهم حق قدره، وها هو بعد سنة ونصف السنة فقط من تجديد الثقة فيه يصنع الحدث من لا شيء وينجح بشكل صارخ ومدوٍ، جعل الكثيرين يندمون ويتحسّرون على السنين الضائعة من عمر المنظومة الرياضية وأفراح الجزائر، ويحيل المعنيين بشؤون الأمة على أهمية مطلب اختيار الرجال في إنجاح وتتويج الخيارات المعتمدة في كل قطاعات النشاط• كما أن للفوز الرياضي أثره المعنوي الكبير على النفوس، خاصة وأننا في الجزائر كنا في حاجة ماسة إلى مثل هذه الأفراح والمكاسب بعد سنوات من الانكسارات، لتزرع الأمل وتعيد للهمم وللوجدان المشترك جذوته، وتحرّر الآفاق المحبوسة ها هنا في ظل سلاح مسرّب أو فكرة مدسوسة، وهو مشروع يلتف حوله الجميع وتتسارع الإرادات إلى دعمه والأخذ بيده والذهاب به بعيدا• هكذا يأخذنا الفوز الكبير إلى هذه المسائل الجوهرية، ويثير فينا رغبة أوسع تسعى إلى تعميم مظاهره وترسيخ أسباب نجاحه لننقذ ما يمكن إنقاذه ونحرك فينا عوامل النجاح والاعتزاز بالذات، بعيدا عن الغرق في جلد الذات دون النظر إلى الأشياء المضيئة، بينما يفعل الفشل فعله المهدِّم في النفوس والقيم والقناعات ومن ثمّة تهديم الأوطان من الداخل، فالمصريون لم يخرجوا بعد من صدمة الهزيمة، وغرقوا في المعاتبة والاجتهاد في تبرير الأمر، فراحوا يقولون إن ملعب مصطفى تشاكر بالبليدة سبب فوز الجزائر، وأنه ''فأل خير''، قالوا إن حدة مظاهر مناصرة الفريق قبل وأثناء المقابلة عكّر صفو فريقهم وراحة بال عناصره المعروفين بخبرتهم، وذكروا أيضا أن بعثة الفريق تعرضت إلى تسمم غذائي عندما أكلت طبق الكسكسي الجزائري الأصيل، ولكن كلامهم هذا لم يعلن خلال الشوط الأول عندما كان الفريق يصول ويجول في الملعب وسط شتات حقيقي للفريق الجزائري، لولا حنكة المدرب التي استدركت الموقف في الشوط الثاني وعرفت كيف تتسلل إلى ثغرات الجبهة المصرية، ونفذها جنود سعدان بدقة وإقبال• أليست نفحات هذا الانتصار وإسقاطاته انتصارات وأبعاد أخرى تحققت في جبهات أخرى، غير المنافسة الرياضية الصرفة، وهي قناعة عبّر عنها، صباح أمس، المدرب الوطني، رابح سعدان، نفسه خلال استضافته في حصة ''ضيف التحرير'' بالقناة الإذاعية الثالثة، تعيد للرياضة وهجها وتكاملها مع باقي المشاريع الوطنية، كمعادلة أدركها الغرب قبلنا وسخّن بها أجواء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، عندما أبطل توازن الرعب مفعول الأسلحة، حيث كانت الرياضة في حد ذاتها، وما زالت، جبهة مواجهة معنوية مفتوحة، ومجالا لاستدراج المواقع المتفرجة على هامش الحراك العالمي، يحاول كل طرف أن يترجم من خلال لاعبيه، ورفرفة علمه، وترديد نشيده الوطني، وبطريقة مغرية تطوره وقوة سياساته المعتمدة وجدواها• إنها حقيقة غابت عنا في ظل الانكسارات المتكررة وإكراهات إعادة ترتيب الأولويات لتجاوز الأزمة الشاملة التي عصفت بالبلاد• فهل من انتصارات رياضية جديدة يا الشيخ سعدان؟