الزائر لبعض أقسام المؤسسات التعليمية بأم البواقي سيصاب بالذهول من ذلك التخريب والتكسير الهائل للكراسي والطاولات والسبورات وزجاج النوافذ والأبواب وأجهزة الكمبيوتر وكأن زلزالا قويا ضرب المنطقة أو إعصارا ما مر من هنا، وإن قمت بجولة لغالبية المؤسسات والإدارات العمومية فلا تندهش لما ستراه من خراب ودمار لكل ما له علاقة ب”مال البايلك” أطفال وشباب، خرجوا لتوّهم من المدارس، يحملون محافظهم على ظهورهم ويلتقطون بعض الحجارة متوسطة الحجم ويقومون بقذف الأعمدة الكهربائية المخصّصة للإنارة العمومية فيكسرون مصابيحها، فهل هم مجانين أم أصيبوا فجأة بنوبة جنون؟ الجواب، لا هذا ولا ذاك، إنها جزء من التكوين الثقافي السائد في المجتمع. أطفال وشباب يقذفون زجاج نوافذ مدارسهم بالحجارة مجموعة أخرى من المراهقين يحملون حجارة ويقذفون بها زجاج نوافذ المؤسسات التعليمية والإدارات العمومية، لا لشيء إلا لأنها عادة مألوفة وتمضية للوقت وقتل للفراغ. تقدّمت منهم وسألتهم لماذا يفعلون ذلك فاستشاطوا غضبًا وأمطروني بالحجارة وكأنّي بهم يرجمون الشيطان، ولولا أحد الأشخاص الذي أنقذني منهم لكانت القاضية، وتبيّن فيما بعد أنه مدير إحدى المدارس بعين مليلة. وكشف منقذي أنه عند نهاية كل موسم دراسي “نقوم بعمليّة جرد للممتلكات المخرّبة، فنجد أن زجاج نوافذ الأقسام والحجرات الدراسية إلى جانب الكراسي المكسورة والطاولات وحتى السبورات وجدران الأقسام المملوءة بالثقوب هي أكثر الممتلكات عرضة للتخريب والتي تكلّفنا كل عام أموالا طائلة، هذا دون الحديث عن تخريب المدافئ والتجهيزات العلمية الأخرى”. المفسدون في الأرض وسياسة راقب ولا تعاقب..! وتسجّل مصالح الأمن المختلفة سنويًا بولاية أم البواقي سرقة وتخريب أطنان من الأسلاك والكوابل النحاسية الموصلة للكهرباء والهاتف، حافلات النقل العمومي والقطارات والطائرات وقاعات الأفراح وقاعات السينما كلها عرضة للتخريب، وحتى الحدائق العمومية لم تسلم من أيدي المخربين والعابثين..إنها ثقافة المفسدين في الأرض الراسخة في أذهان وعقول هؤلاء الناس غير الطبيعيين والمرضى. يقول الأستاذ إسماعيل طالبي، أستاذ علم الاجتماع، إنها ظاهرة مرضية “فالجزائري مفطور على مثل هكذا ظواهر وهي نتاج السياسة المعتمدة من طرف الدولة الجزائرية منذ الاستقلال والتي كانت تراقب ولا تعاقب، فالجزائري حتى عندما يحتج على مشكلة ما يُسارع إلى حرق وتخريب الممتلكات العمومية كمقار البلديات والدوائر وسونلغاز ومراكز الأمن...الخ عوض أن يحتج بالطرق والأساليب الحضارية المعروفة وتلك هي المأساة”. أرقام مخيفة وحقائق مريرة..! كشفت نتائج استطلاع رأي قامت به جمعية محلية وبعض الأكاديميين بولاية أم البواقي على (50) موظفاً حكوميًا يمثلون ست وزارات، هي وزارة التربية، الداخلية، الصحة، الفلاحة، السكن ووزارة الموارد المائية، أن 99 ٪ من هؤلاء الموظفين لم يسبق لأحد من زملائهم في العمل أن عوقب على كسر قطعة أثاث مكتبي أو جهاز يعمل عليه، و40٪ منهم اعترف أن التسبّب بضياع أو تلف شيء من الموجودات يستحق العقوبة أو التغريم أو حتى التّوبيخ وذلك أضعف الإيمان. ويؤكد 80٪ تقريباً أن مؤسساتهم تفضل شراء تجهيزات مكتبية مستوردة تفتقر للمتانة وتوجد لها بدائل محلية تفوقها جودة وأقل سعراً منها بكثير، كما يشير 70٪ ممن أجري عليه الاستطلاع أن المدراء العامين في مؤسساتهم يرفضون استخدام مكاتب من سبقهم ويقومون باستبدالها بمكاتب جديدة. فيما ذهبت كلّ عيّنة البحث إلى تأكيد حقيقة استخدام سيارات الدولة للأغراض الشخصية أكثر من الاستفادة منها لخدمات المؤسسة. وتؤكد عيّنة البحث الميداني أن 80٪ منهم تقريباً لم يسبق لقيادة الصف الأول في مؤسساتهم أن دخلت إلى مكاتبهم وراقبت ما فيها من أثاث أو تنظيم أو سير عمل، فيما قال 20٪ إن مدراء المؤسسات وكبار مسؤوليها الذين دخلوا مكاتبهم أو رأوها من الباب الخارجي لم يبدوا أية ملاحظات. إلى متى عقلية مال البايلك هي السائدة؟ ويقول (سليمان.ج) إطار بمديرية التربية لولاية أم البواقي، إن هناك إهمالا كبيرا وعدم محاسبة في جميع دوائر وإدارات ومؤسسات الدولة وليس فقط بوزارة التربية الوطنية، “فنحن نحصي سنويًا خسائر مادية بالملايير يتسبّب فيها الأساتذة والعمال والتلاميذ”. ويضيف أنهم قاموا في الموسم الماضي بشراء السبورات المغناطيسية ثمن الواحدة منها ب3 ملايين سنتيم، وزعوا 100 سبورة جديدة على 20 ثانوية على مستوى ولاية أم البواقي ولم تمر إلا أسابيع قليلة حتى وردت تقارير إليهم تشير إلى إتلاف وتكسير 90 سبورة من أصل ال100. ويذكر (السعيد. ز) وهو عامل بالديوان الوطني المهني للحبوب والبقول الجافة بعين مليلة، أنّ مديره العام بعد تعيينه بحوالي أربعة أشهر قرر تأثيث غرفة أخرى والانتقال إليها وترك مكتبه القديم للسكرتارية، وقام بالاتصال بشركة معروفة للمفروشات والتأثيث وطلب من مندوب الشركة المعنية تحميلها وإحضارها إلى المؤسسة وقطع فاتورة بالحساب وإرسالها مع العمال، ولم يسأل المدير أبدًا إن كان سعرها بالدولار أم الأورو أو بسعر صاروخي، إنها صورة مصغرة لعقلية مال البايلك أو “دار عمي موح إدي وروح”....!. أما (سليم. غ) عامل بمستشفى محمد بوضياف بأم الواقي، فيقول “كلما جاء مسؤول جديد يُسارع إلى تجديد أثاث مكتبه بكذا مئة ألف دينار، وحتى أجهزة الكمبيوتر التي لا يستطيع حتى التحكم فيها يطالب بتغييرها بأنظمة معلوماتية جديدة وحديثة”. سيارات بالملايير تُخرب في لحظات..! ويكشف بوعلام بن صغير- وهو موظف بمديرية الفلاحة لولاية أم البواقي- أن الغالبية العظمى من السيارات الحكومية أو العمومية تتعرض للتخريب والاستهلاك السريع بسبب عدم اهتمام الذين يسوقونها. ويؤكّد أن الوزارات تسلّم السيارات للموظفين دون محاسبتهم على الأضرار التي يلحقونها بها. وفي هذا الصدد ذكر مصدر محلي وثيق ل “الفجر” أن هناك تقريرا رسميا سُلم لوالي الولاية مؤخرًا يشير إلى وجود حوالي 100 سيارة عمومية، موزعة على عدة مؤسسات وإدارات عمومية قيمتها المالية تزيد عن ال30 مليار سنتيم، أتلفت عن آخرها وأصبحت مجرد “خردة” غير صالحة للاستعمال، إلى جانب إحصاء اختفاء 20 سيارة حكومية فارهة بقيمة 10 مليارات سنتيم. أجهزة كمبيوتر تُحوّل إلى المنازل وتؤكد السيدة (سماح.ج)– موظفة بمديرية الثقافة لولاية أم البواقي- أن إدارتهم استفادت من 10 أجهزة إعلام آلي جديدة “لكننا تفاجأنا أن المدير أخذ واحدا منها إلى بيته بحجة العمل عليه هناك، وبعد أسبوعين أخذ مسؤول آخر جهاز كمبيوتر آخر وقال إن عمله كثير ويحتاج أن يكمله في البيت، ونفس الشيء تكرر مع عدد من المسؤولين”. وتضيف أنه من بين 10 أجهزة لم يتبق في الإدارة سوى 3 فقط، وأشارت إلى أنهم رفعوا رسالة سرية للجهات المختصة لإعلامها بما حدث، إلاّ أنه لم يتغير من الأمر شيئًا حتى هذه اللحظة. أما زميلتها (عائشة. ق) فتؤكد أن زوجها الذي يعمل في شركة سوناطراك بالصحراء الجزائرية يحضر سنويًا للبيت عددا من الكمبيوترات المحمولة، وكل ما يحتاجونه من مستلزمات مكتبية بما في ذلك الحبر لطابعة الليزر، إلى جانب بعض المواد الغذائية “ما دام عندهم فائض فالأمر عادي ما فيها شيء لو أخذ منها للبيت”، تقول المتحدثة. وعندما سألنا (رشيد.ر)، أحد الموظفين في وكالة الضمان الاجتماعي بعين مليلة، عن مدى استعداده لإصلاح مكتبه أو كرسيه الذي يعمل عليه، رد “ما دخلي أنا .. أو هو من ممتلكاتي طبعًا لا .. وماذا ستخسر الحكومة لو جلبت واحدا جديدا فالأموال عندها لا تعد ولا تحصى”. تخريب الممتلكات العمومية جزء من التكوين الثقافي السائد أثبتت الاستطلاعات التي أجريناها على مدار شهر كامل بشأن الممتلكات العمومية للدولة على مستوى ولاية أم البواقي أن الظاهرة غير مختصة بفئة اجتماعية أو سياسية بعينها، كونها تترجم نفسها كجزء من التكوين الثقافي السائد والرائج في المجتمع المحلي ومفردات سلوكه اليومي. ويقول الأستاذ عبد الرحمان حوماد، أستاذ علوم سياسية، إن توجّه البعض لإلصاق التهمة بجهة محددة دون غيرها يعني أن هناك من يحاول إبعاد الشبهات عن نفسه، ولفت الأنظار إلى أفق ثابت من أجل خلق فرص ثمينة لنفسه لنهب المال العام أو تخريب ممتلكات الدولة، فهم يعملون على غرار ما فعله إخوة يوسف عليه السلام حين بحثوا عن كبش فداء يحمّلونه وزر فعلهم الشنيع. فيما يقول المحامي عبد القدوس شيحة إن بقاء هذه المشكلة واستشرائها تعود إلى عزوف الذين يستشعرونها عن التفكير بحلول ومعالجات، ربما لأنهم مستفيدون من وجودها، ويشجعون على أنها إحدى أدوات تقويض السلطة الحاكمة، لأننا كما نعلم أن الظاهرة الاجتماعية والسلوكية يواجهها الجميع، ولا أحد يتنصل من مسؤولياتها خشية أن تمتد وتتسع وتتحول إلى كارثة. ويؤكد أن البديل الوحيد لاستئصالها هو بتعزيز التربية والروح الوطنية وغرسها في نفوس النشء ليتعلموا حب الوطن كما يتعلمون حب الوالدين، أما الجانب الرقابي فهو مطلوب أيضاً طالما ونحن ندرك بالضبط حجم الاستجابات المتمخضة عن التوعية الوطنية. ثلث الميزانيات السنوية المرصودة تصرف على التجهيز والتأثيث وكشفت مصادر محلية متطابقة ل “الفجر” أن أزيد من ثلث الميزانيات السنوية المرصودة من طرف الوزارات للمؤسسات والإدارات العمومية على مستوى ولاية أم البواقي تصرف على عمليات التجهيز والتأثيث، حيث إن هناك مثلا مؤسسات تربوية تصرف سنويًا مليارات الدنانير على جلب الكراسي والطاولات والسبورات وهذه الأخيرة سرعان ما تتعرض للتكسير والتخريب أمام مرأى ومسمع المدراء والأساتذة والمسؤولين. كما تم العام الماضي، حسب ذات المصادر، صرف مبلغ مالي قدره 10 مليارات سنتيم على زجاج شبابيك ونوافذ المؤسسات العمومية، فيما تم تزويد مطاعم بعض المؤسسات التعليمية والمؤسسات العمومية ببعض الأواني كالملاعق والسكاكين والصحون مقابل غلاف مالي قدره مليار ونصف المليار سنتيم. أما بعض بلديات الولاية والإدارات العمومية فقد استهلكت خلال العام الماضي 20 طن من الورق المستعمل كوثائق إدارية كشهادات الميلاد وغيرها بقيمة مالية قدرها 7 مليار سنتيم، مع الإشارة إلى أنه تم العثور في إحدى المفارغ العمومية للنفايات مجموعة من رزم الورق مرمية وهي في حالة جيدة...!. كما ذكرت نفس المصادر أنه وفقًا لتقارير شبه رسمية فقد تم إحصاء مبلغ مالي معتبر يقدر ب 1000 مليار سنتيم هي الخسائر المادية جراء تخريب الممتلكات العمومية في المؤسسات والإدارات الرسمية الحكومية، وذلك في ظرف سنتين بولاية أم البواقي وهو مبلغ أولي غير نهائي.