إذا استندنا إلى نوعية الجمهور الذي تردد على فضاء وزارة الثقافة الجزائرية، الممثلة من خلال الوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي والمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية - تداخل غير مفهوم - وعدد دور النشر المشاركة - 35 - ونوعية بعض العناوين المعروضة، وتحمس المسؤولين الحاضرين والزوار الجزائريين.. لا يمكن إلا القول إن المشاركة الجزائرية في معرض باريس للكتاب في طبعته الجارية، قد باتت إيجابية ومثمرة ظاهريا في اليوم الثاني الذي شهد إقبالا جماهيريا كبيرا قد يتجاوز 200 ألف زائر، قبل انتهاء التظاهرة يوم الأربعاء. الفجر” التي قضت ظهيرة يوم السبت متوقفة عند أهم محطات الاستقطاب الجماهيري.. وجدت صعوبة كبيرة في التجول عبر فضاء دور النشر الجزائرية؛ التي جمعت في مساحة ضيقة لا تكفي لمسؤوليها ولبعض الكتاب والصحفيين القلائل، أو الزوار الذين يقيمون في فرنسا ويأتون في كل دورة بحثا عن كتب معينة. ورغم ضيق الفضاء الجزائري نستطيع القول إن عدد الزوار الذين ترددوا على الجناح الجزائري في اليوم الثاني قد عبر على اهتمام نوعي وملحوظ يستحق مساحة أكبر تسمح بتجول مريح لا يجبر الواقف قبالة رفوف دور محظوظة وبارزة؛ مثل “القصبة و”موفم” و”الحكمة” و”الشهاب”، على الإعتذار عند اصطدامه بزوار طغى عليهم الجنس اللطيف. الملاحظة العامة التي تلفت الإنتباه في دور نشر تقدم على أنها خاصة في معظمها، رغم تلقيها دعما حكوميا مباشرا أو غير مباشر، دورانها في فلك التاريخ الوطني الضيق من منظور الشخصيات الثورية، دون غيرها من القضايا التاريخية السجالية المعطلة لأسباب سياسية والذاكرة الفنية والحضارية غير المتنوعة بالقدر الكافي، بالنظر إلى غناء وعراقة الفن الجزائري، إلى جانب محاور الرواية والبحث الجامعي والطبخ والحلويات.. وهي المحاور التي تلقى إقبالا خاصا، إلى جانب الكتب التي تتناول فترة الإرهاب. دوران دور النشر في فلك غير مفتوح على قضايا إشكالية ومصيرية وتحديات راهنة تعرفها نخبة النشر وغير النشر ليست حقيقة مطلقة، وخفف من وطأتها ناصر جابي بكتابه الاستثنائي “الجزائر..الدولة والنخب”، والراحل جيلالي اليابس ومولود قايد وعلي الكنز صاحب كتابات المنفى؛ الذي ضيعته الجزائر مثل باحثين آخرين من طرازه وطينته - عدي الهواري مثلا - المطرب الشعبي السابق عبد القادر بن دعماش الذي أصبح باحثا رمزيا في مجال الذاكرة الفنية بكتبه المرجعية حول عدد هام من رموز الفن الجزائري العريق “وجوه من الفن الموسيقي”، وبودالي سفير وعاشور شرفي الصحفي القدير السابق الذي تحول إلى باحث مرجعي بكتبه الهامة مثل “أنتولوجيا جزائرية” و”الموسوعة المغاربية” و”قاموس الثورة الجزائرية” وكتب أخرى صادرة كلها عن دار القصبة، المسؤول فيها في حدود معلوماتي، إلى جانب زميله السابق مولود عاشور، الذي تردد على فضاء الجزائر هذه المرة بدل مدير القصبة اسماعيل امزيان ومصطفى ماضي. توزيع رفوف كتب دور النشر في فضاء الجزائر لم يكن عفويا وخضع لحقيقة هيمنة بعض الدور على حساب أخرى، بغض النظر عن القيمة الحقيقية لمنشورات هذه الدار أو أخرى، ورغم أهمية عدد كبير من العناوين المذكورة وغير المذكورة التي تسد فراغا فكريا وأدبيا مهولا مقارنة بالفترة السابقة.. لايمكن القول إن المشاركة الجزائرية في صالون باريس للكتاب قد عكست بالقدر الكافي وجوه وطاقات وإبداع وقضايا وتحديات جزائر الماضي والحاضر وحاجات أكبر الشرائح الاجتماعية والجزائر العميقة والمتأزمة على أكثر من صعيد، تستحق مشهد نشر أكثر جرأة وآنية بعيدا عن خطاب الذاكرة المهم والحيوي، شريطة عدم توظيفه من باب التمجيد لتاريخ مازالت تشوبه مستويات غموض وتعتيم عرفناها مع عودة بوضياف الذي عرفه الشباب بعد اغتياله. الصراعات الشخصية والفكرية والسياسية واللغوية التي تعرفها ساحة النشر، كما هو الحال في الصحافة، وسيطرة بعض دور النشر على أخرى، كانت واضحة في فضاء الجزائر. وإذا كانت هذه الصراعات ليست سلبية بالضرورة لأنها تكشف عن انتهازية دخلاء معروفين استفادوا من مال الريع باسم إعادة الاعتبار للكتاب، فإن من واجب الدولة تشجيع المهنيين والنزهاء من كافة الأطياف الفكرية والإستعانة بذوي خبرة عرفناهم أيام “لاسناد” المرحومة .