في العدد الأخير من الملحق الثقافي ”الأثر” لجريدة الجزائر نيوز، قرأت رد الروائي العزيز الحبيب السائح على ما ذهب إليه المختص في علوم الاجتماع ناصر جابي، إذ يرى هذا الأخير أن ”المثقف المعرب هو أزهري حتى ولو كان لائكيا وتقدميا، فهو في النهاية يكتب بلغة غير لغة الناس البسطاء”. وبقدر ما راقني رد الحبيب على جابي الذي تنكب جادة الصواب في حكمه العام على المثقف المعرب، لأن في قوله شيئا من قسوة غير مبررة فيها رائحة إدانة ما، وفي قوله تعميم لا يستقيم والسوق اللغوية على حد تعبير بيار بورديو خير دليل على ذلك على الأقل في الجزائر، وليس الدكتور من يطلق الكلام على عواهنه. حاولت أن أفهم ما قاله ناصر جابي وأنا أقلبه على وجوهه رغم أن لغته عصرية إلى حد ما وليست لغة قس بن ساعدة أو الشنفرى ولا حتى البشير الإبراهيمي، لكنني لم أفهم، لأن السؤال الأكبر هو كيف تكون لغة هذا اللائكي أو الليبرالي أزهرية في الأساليب والإنشاء والأثر الذي يخلفه الفكر على اللغة يكاد يكون مسلمة، هذا إذا سلمنا أن اللغة ”الأزهرية” كما يريد أن يفهمها الدكتور جابي لغة محكمة رصينة وعلى قدر رفيع من البلاغة، وبالتالي هي ليست لغة البسطاء من الناس دائما حسب الدكتور، ولا أفهم جابي ماذا يريد بقوله ”لغة الناس البسطاء”، وكما أعرفه لا أفهم هل هو يدعو إلى العامية مثلا. وما رأي الدكتور لو قلت له إن هذه اللغة ”الأزهرية” ليس فيها ما يعيبها وأن تداولها اليوم لا غبار عليه، وأنها تصل إلى عموم الناس ما كانت خالية من غريب اللفظ ووحشي الأساليب، ولا حاجة مثلا للتذكير بالخطاب الديني ذي الحضور الذي لا ينازع، ما رأيه في لغة الداعية عبد الحميد كشك، ما رأيه في لغة الشيخ محمد الغزالي في حديث الإثنين الذي كان يقدمه في الجزائر، والدكتور يعرف جماهيرية الشيخين - رحمة الله عليهما - هنا وهناك وهما أزهريان شكلا ومضمونا ودما، وما رأي الدكتور في لغة ابن باديس، وفي لغة عبد الله شريط، وفي لغة الطاهر وطار - الله يرحمهم - هل أذكر الدكتور بالأفلام الدينية مثلا، هل نذكر فيلم الرسالة الذي كتبه أدباء على رأسهم توفيق الحكيم، ما رأيه في الإقبال المجنون عليه، وما رأيه في لغة السيناريو، على جانب آخر يعرف الدكتور إقبال الصبيان والصبايا والشيوخ والعجائز منذ زمن على أفلام الغرام المكسيكي، ولذلك وبقدر ما راقني الرد الحبيب ليس دفاعا عما يسمى اليوم ب”المثقف المعرب” - وهي تسمية صارت تهمة أو سبة وتصنيفا حاقدا للتهميش والإقصاء والأمر ينسحب على المفرنس الشوفيني - هالني تجذر المقاربة الصدامية والعدائية للمسألة اللغوية في الجزائر لدى النخبة الجزائرية أكاديميين ومبدعين وساسة. وهو ما يؤكد بقاء نار حرب اللغة ولو تحت رماد الاستخفاف بالموضوع تارة أو بادعاء الهدنة بين الجانبين ولو على دخن، وهي حرب دونكيشوتية عمياء تضرب عنق أثمن نعمة في هذا البلد، نعمة الثراء والتعدد، ولكن من أمسكوا بخاصرة الجزائر جعلوا التعدد تبددا وتبلدا بأخطر الأسلحة الثقافية وهي اللغة، لنا عود لا هوادة فيه لنبحث خفايا وزوايا الحرب الصامتة أو الباردة أو الخاملة، حرب اللغة في الجزائر.