بدايات الحركة الوطنيّة، لغز اختفاء عبان رمضان وجواسيس المغرب محمد بوداود، المدعو منصور، نشط في ميدان التسليح بالغرب منذ أواخر 1955، أرسله العقيد عمار أوعمران قائد المنطقة الرابعة، لكن وجد محمد بوضياف هناك فعمل معه، إلى غاية اختطاف طائرة الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني في 22 أكتوبر 1956. واصل نفس المهمة بعد ذلك مع عبد الحفيظ بوالصوف، الذي خلف كلا من بوضياف وبن مهيدي، ثم مع أوعمران فمحمود الشريف، قبل أن يختم المشوار مع بوالصوف، في إطار وزارة التسليح والإتصالات العامة (مالغ) الشهيرة. بفضل هذا المشوار النضالي الطويل الذي بدأ يسنة 1944 بناحية بغلية (بومرداس) في صفوف حزب الشعب الجزائري السري واستمر بالعاصمة في "المنظمة الخاصة"، ليجد نهايته الطبيعية في جبهة التحرير الوطني. بفضل ذلك تعرف على شخصيات هامة أمثال آيت أحمد، كريم، بوضياف وبوالصوف وبومدين وزڤار.. وعاش أحداث بارزة فضل الحديث عنها لأول مرة على صفحات "الفجر" التصدي لمحاولات اختراق المخابرات الفرنسية، إحباط محاولة تموقع "الحركة الوطنية الجزائرية" (المصالية)، قضية عبان، قضية الشيخ بوزوزو، وعمر بن بولعيد، انقلاب زڤار وبومدين على بوالصوف إلخ.. كل هذه الأحداث البارزة لم تكن تخلُ من انتصارات، لكنها كانت في نفس الوقت مشحونة بمرارة الهزيمة والإحباط على الصعيد الشخصي، ما جعل الشاهد والفاعل المهم ينسحب منذ فجر الاستقلال من الساحة السياسية، بعد أن صنف من بومدين وحليفه بن بلة في خاصة الحكومة المؤقتة ليعود إلى سابق مهنته، وهي التجارة. اختبار.. المنظمة الخاصة عرفت الحركة الوطنية بصفة عامة مدا نضاليا سنة 1944، بفضل موجة "أحباب البيان والحرية" التي حملت معها بناحية بغلية (بومرداس) الشاب موح أرزقي بوداود، وكان حيئذ يساعد والده في الأعمال الزراعية، بعد أن لفظته المدرسة الفرنسية وهو على أعتاب الشهادة الإبتدائية. كان ينشط الحركة بالناحية يومئذ المناضل رزقي جمعة، الذي كان يجتمع بموح أرزقي وأنداده بمزرعة عائلته، في كاف العڤاب، قبل أن يسلم الراية إلى المناضل محمد زروالي في أواخر نفس السنة.. وفي هذا الإطار ساهمت خلية بوداود ورفاقه، في توسيع قاعدة الحركة بتأسيس خلال جديدة، غير أن إعصار 8 ماي 1945 ما لبث أن عطل هذه الحركة، لكن إلى حين. وكان تنظيم حزب الشعب الجزائري السري قد حاول التصدي إلى هذا الإعصار، بتعميم انتفاضة الجماهير في نواحي سطيف، خراطة وڤالمة.. وقد جندت لهذه الغرض بمنطقة جرجرة بعض تلاميذ ثانوية بن عكنون ومدرسة المعلمين ببوزريعة، وكان من المفروض أن تندلع الإنتفاضة ليلا 24 ماي. وفي هذه الأجواء كلف المناضل موح أرزقي باستقبال وإيواء ثلاثة من هؤلاء، هم حسين آيت أحمد وعمر أو صديق، وربما علي العميش (أو عمار ولد حمودة)، قبل مرافقتهم إلى تيزي وزو. وبعد الأمر المضاد بوقف التنفيذ، عرفت المنطقة حملة قمع واعتقالات شرسة، شملت معظم مسؤولي الحركة بدءا بمحمد زروالي وسيدي علي حاليت.. وشقيقه الأكبر عمر بوداود. ويعود الفضل في نجاته من الإعتماد إلى التباس الأمر على مصالح الأمن، لأنه كان وشقيقه يحملان نفس الإسم في وثائق الحالة المدنية! وعقب انفراج الأوضاع نسبيا جراء قرار العفو العام ابتداء من ربيع 1946، اختار الشاهد النزوح إلى العاصمة، للإشتغال بتجارة الخضر والفواكه التي كان يقوم بمبادلتها أحيانا مع المغرب.. وعند الشروع في تأسيس المنظمة الخاصة.. تطبيقا لقرار مؤتمر حزب الشعب الجزائري في منتصف فبراير 1947، لم ينس آيت أحمد، نائب رئيس المنظمة والمشرف على تنظيمها بمنقة جرجرة، وذلك الشاب الذي آواه ورفيقيه قبل أكثر من عامين، فاستدعاه وطلب منه الإنضمام إلى هذا التنظيم شبه العسكري الذي أسندت إليه مهمة الإعداد لإشغال فتيل الثورة في الوقت المناسب.. عين موح أرزقي في خلية بالعاصمة، ينشطها عمر بتروني، العائد بتجربة غنية من حرب الهند الصينية. وكان من تقاليد المنظمة الخاصة وضع المرشح إليها على محك التجربة، لاختبار مدى استعداده للتضحية وانضباطه في تنفيذ المهام الخطيرة المسندة إليه. وكانت المهمة التي كلفت بها في هذا الإطار هي التسلل إلى قصر الولاية العامة (الحكومة حاليا) ذات مساء للاستيلاء على بعض الأموال والوثائق.. وقيل له بالمناسبة إنه سيجد بعين المكان متواطئين يساعدونه في مهمته.. وفي الموعد المحدد جاء المناضل إلى حديقة مقر الولاية العامة، وبعد لحظات التحق به مسؤوله المباشر الذي سلمه مسدسا للدفاع عن نفسه عند الضرورة القصوى.. وكانت المفاجأة أن طلب المناضل الشاب من ممتحنه إخراج خزنة المسدس قبل استلامه، وكانت بدون خراطيش، فغضب لذلك أشد الغضب.. ظنا أن المسؤول يريد أن يدفع به إلى الهلاك مجانا! لكن بعد قليل عرف من مسؤوليه أن الأمر مجرد اختبار، لمعرفة إن كان جديرا بالانضمام إلى هذا التنظيم الطلائعي.. في غضون النصف الأول من عام 1949 اعتقلت سلطات الاحتلال، بميناء وهران، المسؤول السياسي لولاية جرجرة المناضل واعلي بناي.. فبدت لآيت أحمد ورفاقه أن يفتكوه، أنثاء نقله إلى سجن تيزي وزو انطلاقا من العاصمة، وفي هذا الإطار عين موح أرزقي ضمن مجموعة لتنفيذ هذه المهمة في مكان مناسب على الطريق ما بين يسر وبرج منايل.. غير أن أمن الاحتلال أفشل هذه المحاولة ومثيلاتها في العاصمة ما بين برج منايل وتيزي وزو، بنقل الأسير من وهران إلى عاصمة جرجرة مباشرة.. كان على أعضاء المنظمة الخاصة أن ينتظروا طويلا أمر قيادة الحزب، بإشعال فتيل الثورة المسلحة التي انتدبوا لها وتدربوا من أجلها.. واعترى بسبب ذلك الكثير منهم شيء من الخيبة والملل، لاسيما بعد أن بدأت القيادة تكلفهم بمهام عادية، كتوزيع المناشير وكتابة الشعارات على الجدران.. إلخ وكان شاهدنا من هؤلاء طبعا.. فقد استبد به القلق فأمسى حاد المزاج، سريع الانفعال، ما جعله عرضه للعقوبة، كتعيينه "خلايا تأديبية" تخضع لنظام جد صارم! (1) ولد سنة 1926 بناحية تاورڤة. دائرة بغلية (2) اشتهر في الثورة باسمه الحركي منصور (3) مسؤول اتحادية فرنسا لجبهة التحرير من 1957 إلى 1962. لغز.. اختفاء عبان في مطلع 1958 عرج سي منصور على القاهرة بعد مهمة في زوريخ تتعلق بالأسلحة دائما.. وجد هناك الجو مكهربا، إلى درجة أن بوالصوف طلب منه ترك القاهرة بعض الوقت إلى سوريا، لزيارة شقيقه الوناس الطالب في كلة الطيران الحربي بحلب. وسبب ذلك أن إشاعة اختفاء عبان بدأت في الاتشار، وتفعل فعلها في قمة هرم قيادة الثورة. بعد أيام عاد إلى القاهرة فوجد أن لجنة التنسيق والتنفيذ قد تقاسمت المهام، فآلت مهمة التسليح إلى العقيد أوعمران الذي اقترح عليه أن يكون ممثله في المغرب، وقابل بوالصوف بالمناسبة فرغبه في قبول المهمة، لتسيير التعامل بين الطرفين على أساس العلاقات السابقة، وهو الذي جاء بالتعيين من لجنة التنسيق ذاتها.. وفي طريق الالتحاق بالمغرب، بعد أن تسلم المبالغ المالية اللازمة للعلمية، فضل المرور بطرابلس وتونس، عله يجد جوابا شافيا للغز "اختفاء عبان".. في العاصمة الليبية وجد عمر حداد فسأله عن عبان، فأكد له أنه لم يدخل ليبيا حسب علمه. وفي العاصمة التونسية توجه بنفس السؤال إلى العقيد دهيلس وآخرين، فقيل له إنه اختفى منذ شهرين تقريبا، فكر عقب ذلك في كريم مسؤول قسم شؤون الحرب حسب التقسيم الجديد لعله يجد لديه الجواب الشافي.. وفعلا طلب مقابلته، لكن بدل استقباله في مكتبه فضل استقباله ليلا في منزله.. هذا المؤشر بالإضافة إلى توتر كريم لم يكن دليل خير، ما شجع الزائر على مفاجأة مضيفه بسؤال مباشر لجس النبض فقط: "كيف تقتلون عبان؟!". كان سي منصور وهو يطرح سؤاله الجريء يتوقع جوابا مطمئنا، كأن يقول كريم مثلا: إننا أرسلناه في مهمة إلى بلد ناء كالصين أو غيرها.. لكن كريم رد على المفاجأة بمثلها: قتلناه! نعم! فصعق لحظة لما سمع، ثم عاد إلى المساءلة "كيف تقتلونه هكذا بدون محاكمة؟! ثم استطرد معاتبا: ما كان لأحد أن يتجرأ على عبان لولا موافقتك أنت! إن دورك قادم لا محالة، أسوة بأوعمران الذي بدأت الإشاعات الخبيثة تنتشر حوله.. بعد أن تخليتما على عبان.. انتفض كريم غاضبا مؤكدا: نعم قتلته! ولو بعث لقتلته ثانية. عاد سي منصور في نهاية المطاف إلى المغرب عبر ألمانيا، ليخبر شقيقه عمر ورفاقه في قيادة اتحادية الجبهة بفرنسا بالحقيقة، حتى لا يسألوا عن عبان بعد الآن.. محاولات اختراق.. بالمغرب حاولت المخابرات الفرنسية بالمغرب اختراق جهاز التسليح لجبهة التحرير الوطني، ذكر لنا منها سي منصور مثالين، استعملت فيهما طعم السلاح طبعا، كما استغلت حلفاء الثورة كذلك. المثال الأول يخص محاولة عن طريق الملحق العسكري بالسفارة المصرية بالرباط الذي اتصل بالشيخ خير الدين، ليضرب لي موعدا في مكتبه صباح غد على الساعة التاسعة، الموعد حسب الملحق مع شخص يمكن أن يوفر لنا كميات من الأسلحة نحن في أمس الحاجة إليها. توقعت خديعة ما، فكلفت عددا من العناصر التي أشرفت عليها، بمراقبة حركة السفارة المصرية ما بين الثامنة والتاسعة صباحا.. جاء الشخص الذي كان على موعد مع الملحق العسكري راجلا، ودخلا السفارة في الوقت المحدد، وغادرها راجلا كذلك حتى محطة الحافلات، ركب حافلة باتجاه مكناس التي وجد بمحطتها سيدة فرنسية، قادته مباشرة إلى أحد المطاعم لتناول الغذاء، قبل أن ترافقه إلى ثكنة للجيش الفرنسي ما بين مكناس وفاس على طريق إفران. لام الملحق العسكري المصري الشيخ خير الدين لعدم حضوري، فعاتبني الشيخ بدوره.. وقد اقتضى الأمر أن أنتقل إلى مكتب الشيخ لأخبره بحقيقة الأمر.. وأننا أدرى بالفرنسيين من الأشقاء بمصر. المثال الثاني يتعلق بمحاولة عن طريق الدكتور عبد الكريم الخطيب، الوزير في حكومة الرباط، وأحد قادة جيش تحرير المغرب سابقا. ونظرا لثقتنا فيه قبلت حضور موعد ضرب مع شخص، نازل في فندق "ماجستيك" بالدار البيضاء، في الغرفة 11 تحديدا. قدم الشخص نفسه كمتحدث باسم مجموعة ليبرالية فرنسية مناوئة للحرب، يهمها مساعدة الثورة الجزائرية بأسلحة متطورة، وبأسعار مناسبة جدا! لكنه ما لبث أن كشف نفسه من خلال الأسئلة المشبوهة التي كانت يطرحها، حول مكان إنزال الأسلحة الموعودة، وكيفية نقلها.. وهل يتم ذلك بعلم السلطات المغربية أم بدونه.. إلخ.. وهنا أخرجت مسدسي ووضعته فوق الطاولة قائلا: قل للذين أرسلوك أن يعوضوك بأحد أذكى!، وأمهلته ساعتين لمغادرة التراب المغربي.. وفعلا بعد ساعة طلب "تاكسي" لنقله إلى المطار مباشرة. ... (يتبع)