استأثر أبو الطيب المتنبي، بين شعراء العربية، بالصيت الواسع والحضور القويّ، وقد ظلّ شعره الساحر الأخّاذ على مرّ العصور يستقطب الاهتمام ويثير السجال، فلا يختلف اثنان أن الذاكرة العربية تحتفظ له بأشرق صورة وأعزّ مكانة. تجري قصائده النفيسة على كل لسان، ولذلك يصدق عليه حقا قول القائل بأنه ملأ الدنيا وشغل الناس.. المتنبي شاعر القلق والتمرّد، يختزل شعره الروح العربية بإبائها و كبريائها في اعتدادها وطموحها إلى بلوغ الكمال الإنساني، وفي توقها إلى الحياة. إن شاعرية المتنبي النادرة تتأسس على أمور كثيرة يصعب حصرها.. لعل أكثرها حضورا إلى الذهن هو تفجيره لكنوز اللغة، وتوليده للمعاني المبتكرة التي ذهبت حكما بالغة و أمثالا سائرة. لقد بدا لي أن القاموس اللوني عند المتنبي بالغ الثراء و التنوع، يحيل على صور وصفية تتأسس على اللغة أوتنزع إلى التعبير عن حالات وجدانية أو أوضاع اجتماعية و إنسانية متباينة. لكن تشديده على اللون الأسود تحديدا، ليس صدفة وإنما له ما يبرره كونه ينم عن خلفية نفسية شعورية، ويشي بشخصية غامضة ومعقدة تقاذفتها النوازع والأهواء والآمال و الآلام. وبالنظر لما لهذا اللون في شعره من حضور ملفت، فإنه يمكننا أن نذهب إلى القول بأن الأسود كان اللون الأثير إلى نفس المتنبي، على عادة العباقرة والعظماء، وهو الشاعر الذي كدّرت روحه الأهوال و المعاناة، حتى صار متشائما ساخطا سوداويا ينظر إلى العالم بمنظار أسود. شعره يضعنا في مواجهة متطرف لا يعرف الاعتدال، يتنقل من النقيض إلى أقصى النقيض، يظهر الضّد بضّده خارقا لكل قاعدة ومألوف، فهو القائل: ”وبضدها تتميّز الأشياء” كل الألوان عند المتنبي تنزاح نحو الأسود، الذي هو حالة انعدام الألوان عند الفيزيائيين البصريين، لأن بصيرته تراها كذلك حتى وإن بدت غير ذلك. يتفرّد المتنبّي بين شعراء العربية بنظرته الخاصة إلى بياض الشيب، فقد دأب كثير على ذمّه، كونه يدلّ على توليّ رونق الشباب وبوادر النهاية. غير أن الأمر ليس كذلك مع شاعرنا، فهو لم يشب كِبَرًا، وإنما لعِظَم ما أصابه من الفراق وهجر الحبيب، و لذلك صار سواد لمَّته أبيض كالدمقس أو الحرير الأبيض. إنه ليأنس للمرأة العربية التي لا تجلب حسنها بالتطرية والتصنّع وتكلُّف الزينة، فليس التكحّل في العينين كالكُحْل الطبيعي، و من حبّ هذه التي لا تعرف التمويه ترك لون شعره الأشيب دون خضاب. حين يصوّر كثرة الثلج و عموم بياضه، حتى التبستْ عليه طرقه ومسالكه فلم يهتدِ فصار البياض سوادا، لأن الأسود لا يهتدى فيه. يصف المتنبّي ممدوحه كافور الإخشيدي بالشمس المنيرة السوداء،التي يُزْرِي ضياؤها و بهاؤها بكل ضياء وبهاء، وأنَّى للملوك البيض أن يُبدِّلوا لون سُحْنَاتِهمْ بلونه الأسود. كي يكونوا أكثر هيبة في أعين أعدائهم، لأن الأسود مهيب في الحرب لا يظهر عليه أثر الخوف، وقد رُوي عن بعض الصحابة أنهم كانوا يخضبون لحاهم بالسواد للمهابة لا للزينة. هكذا وجد المتنبي في الأسود لون سويدائه، فصار هذا اللون عنده هو كل الألوان تشوَّشت حاسته اللونية، والتبس اللون بالآخر، لم يعد له معنى ثابت وصار تجليا عابرا لحالة آنية، يتبدل معناه بتبدّل السياقات الوصفية والانفعالات المزاجية التي تضفي على قصائده ألوانها الخاصة. أحمد عبدالكريم