أعلنت قبل 36 ساعة جوائز مهرجان برلين، وسط حفاوة وإقبال إعلامي وجماهيري تجاوز 5 آلاف ناقد وصحافي ومعلق، يتسابقون لملاحقة أفلام هذا الحدث العالمي. أكتب كلمتي قبل معرفة النتائج، في تلك الدورة التي تحمل رقم 65، رأس لجنة التحكيم المخرج الأميركي دارين أرو نوفسكي، وبعيدا عما تثيره عادة النتائج، ما بين مؤيد إلى حدود الهتاف للجنة التحكيم، والمطالبة ببقائها مدى الحياة، ومستهجن مشكك في توجهها، ومطالب بإسقاطها فورا.. هذه التناقضات في الرؤية تظل من طبائع التقييم الفني، الذي مهما وضعنا له من قواعد ومحددات فالأمر يخضع في جانب كبير منه للذوق الشخصي، لا تصدقوا أن الموضوعية والقواعد الصارمة هي وحدها تملك مفتاح التقييم الفني، هناك بالطبع معايير، ولكن الإبداع يأتي ليهدم قاعدة مستقرة، ليبني على أطلالها إبداعا آخر، ولو أعدت تشكيل لجنة تحكيم، أي لجنة تحكيم، لحصلت بالضرورة على نتائج مغايرة. ليست هذه هي قضيتنا، ولا هذا هو موضوعنا، ولكني هذه المرة أريد أن أحدثكم عن قيمة أراها تقف دائما وراء تلك الصورة الباهرة لمهرجان برلين، إنه الجمهور؛ الصانع الأول لهذا الشغف الذي يمنح المهرجان خصوصيته كما رأيتها بين عشرات المهرجانات. ولو أحلت المشاعر إلى رقم لاكتشفت أن الإقبال الجماهيري يصل إلى نصف مليون تذكرة، عندما أعقد مقارنة بين مهرجاني ”كان”، و”برلين” أقول لكم بضمير مستريح إن الجمهور في ”كان” في العادة لديه هذا الشغف بأفلام المهرجان، ولكنه يعشق أكثر رؤية النجوم، وهكذا تتم مطاردتهم من الفندق إلى السلم في قاعة لوميير الكبرى المطلة على شاطئ الريفييرا الساحر. هناك من يستيقظ مبكرا ليحجز لنفسه مكانا خاصا قريبا من السجادة الحمراء في انتظار أن يرى في المساء نجمه أو نجمته المفضلة. في برلين هذا الشغف قائم بالطبع، ولكن تدافع الجمهور لأفلام المهرجان يصل عادة إلى الذروة. الوجه الآخر للصورة، وهو ما نراه في العديد من المهرجانات العربية وخاصة المقامة في مصر، تكتشف أنها لعدد من النقاد والصحافيين، بينما الجمهور غائب تماما. أين الناس؟ أقصد أصحاب الحق الأول في إقامة المهرجان، لن تعثر عليهم إلا فيما ندر. أتذكر قبل 30 عاما كانت الحالة مختلفة تماما في مهرجان القاهرة، حيث إن الإقبال الجماهيري كان صاخبا، وتردد وقتها تعبير ”قصة ولا مناظر”، كانوا يقصدون الفيلم الذي به مشاهد جريئة وسمحت به الرقابة، فهو إذن مناظر، أما القائم على فكرة فهو قصة ولن يشاهده أحد. تلاشى تقريبا كل ذلك في السنوات الأخيرة، فلا قصة ولا مناظر تثير اهتمام الناس. لا شعوريا أقارن وأنا أتابع شغف الجمهور الألماني، وهناك أيضا شغف عربي ببرلين، لا يتمثل فقط في حضور عدد كبير من الزملاء، ولكن في الحقيقة هناك أكثر من تظاهرة عربية حرصت على أن تُصبح برلين هي منصة إطلاقها، مثلا مهرجان ”قُمرة” الذي ستقام دورته الأولى في السادس من مارس (آذار) المقبل في الدوحة، شهد مهرجان برلين تدشينه، وهناك أيضا المركز السينمائي العربي وهو يسعى للوصول إلى عقد اتفاقات إنتاج مشتركة، فهم مجموعة من الشركات العربية السينمائية المحدودة في الإمكانيات المادية، ولكن طموحهم لا يعرف حدودا، وجدوا أن المهرجان الجماهيري من الممكن أن يحقق أحلامهم بالإنتاج المشترك لتراهم الملايين في العام المقبل. هناك جائزة يمنحها الجمهور سنويا في المهرجان لأفضل فيلم، وهذا الجمهور يستحق أن نمنحه دب برلين الذهبي!!