يتتبّع الفيلم الوثائقي ”كاليدونيا الجديدة.. مظلمة المنفى”، الذي عُرض ضمن المنافسة الرسمية في فرع الأفلام الوثائقية بمهرجان وهران للفيلم العربي، رحلة المنفى التي خاضها آلافٌ من الجزائريين إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة على بعد آلاف الكيلومترات من وطنهم الأمّ، نهاية سبعينيّات القرن التاسع عشر، في واحدة من أبشع جرائم الاحتلال الفرنسي ضدّ الشعب الجزائري. وهناك.. في ذلك البلد الواقع شرقي أستراليا؛ يلتقي الفيلم بأجيال جديدة من الجزائريّين الذين يخوضون، بدورهم، رحلة أخرى مضنية، للبحث عن جذورهم والحفاظ على هويّتهم الجزائرية. للمرّة الثانية؛ يُشكّل موضوع المنفيّين الجزائريّين إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، مادّة مغرية للعمل الوثائقي الجزائري. فبعد تجربة المخرج التلفزيوني سعيد عولمي الذي قدّم للتلفزيون العمومي سلسلة وثائقية اكتشف، من خلالها، الجمهور العريض تلك القصّة التي لم يكن يعرفها الكثيرون؛ يعود المخرجان عبد القادر مام وعبد العزيز عبيد ليسلكا الطريق نفسها، محاولاً إعادة اكتشاف جوانب أخرى من القصّة، وتقديمها برؤية مغايرة. مفاتيح الحكاية أمامنا هنا قصّةٌ يتداخل فيها الإنساني بالتاريخي، السياسي بالقانوني، يتشابك فيها الماضي بالحاضر، ليُعيد نسج خيوطها ورسم وقائعها منذ البداية. وقبل بدايته، يقدّم الفيلم مفتاحين للدخول إلى عوالم الحكاية، ويقترح مدخلين أساسيّين إليها: الأوّل نصّ مكتوب يضع المُشاهد في الخلفيّة التاريخية للقصّة، والثاني شهادةٌ مصوّرة تختصر القصّة / موضوع الفيلم. في المدخل الأوّل؛ نقرأ العبارة التالية: ”الاحتلال الفرنسي يُواجه مقاومة شعبية في العام 1871. وللانتقام الشديد من أبطالها، يقرّر المحتلّون نفيهم وطردهم إلى كاليدونيا الجديدة دون رجعة”. نحن الآن على بعد 150 عامًا من تلك الحقبة، حيث يتشكّل مجتمعٌ من الأحفاد يقاوم، هو الآخر، من أجل هويّته المسلوبة.. هنا ينفتح المدخل الثاني الذي يستعرض شهادة واحدة من أحفاد المنفيّين.. تظهر في الصورة سيّدة بزيّ أوربي تبدو في العقد الخامس من عمرها، تتحدّث باللغة الفرنسية قائلةً:”أودّ أن يعرف الجزائريّون أنّ ثمّة جزائريّين آخرين عانوا في بعدهم عن بلادهم. تمّ نفيهم ولم يتمكّنوا أبدًا من رؤية بلدهم الذي أحبّوه بقلب كبير. تركوا العائلة والثقافة والوطن، ولم يبق لهم إلاّ الذكريات”. تُقاوم السيّدة دموعها، تغالب حشرجة سكنت في حلقها، قبل أن تضيف متأثّرة: ”لو تمكّنت من العودة إلى الوراء، لفرشت لهم السجّاد لتمكينهم من العودة”. هكذا؛ فضّل الفيلم الكشف عن نفسه منذ البداية التي تشي أنّ مخرجه سيشتغل على مرحلتين زمنيّتين: مرحلة الأجداد التي شهدت رحلات النفي إلى كاليدونيا الجديدة، بعد فشل ثورة المقراني والشيخ الحدّاد في الشرق الجزائري، وزمن الأحفاد الذين باتوا يشكّلون نسبة معتبرةً من المجتمع الذي اندمجوا فيه وأصبحوا جزءًا لا يتجزّأ منه، دون أن يثنيهم ذلك عن التعلّق بجذورهم والبحث عنها، والسعي للحفاظ على مكوّنات شخصيّتهم، كمواطنين من أصول جزائرية. ظلال تاريخيّة يبدأ الفيلم بالأرض.. عبر مشهد بانورامي مرفق بعزف الناي، يُظهر حقل قمح واسعًا يتوسّطه الكاتب، العيد مقراني، الذي يتحدّث عن مقدّمات ثورة المقراني بالقول: ”هذه الأرض التي تنطق بجزائريّتها صارت ملكًا للفرنسيّين والأوربيين القادمين من دول مختلفة، وهذا من أسباب ثورة المقراني”. ثمّ تنتقل الكاميرا بسرعة إلى قلعة بني عبّاس التي كانت معقلاً للحاج محمّد المقراني وأخيه أحمد بومرزاق؛ حيث يتدخّل الباحث جمال أمقران الصدّيق لينير بعض الجوانب التاريخية المتعلّقة بمقاومتهما الشعبية الشهيرة، إلى جانب الشيخ الحدّاد: ”لم يكن المقراني شخصيّة دينيّة أو علميّة، بل كان شخصيّة سياسيّة وعسكرية، تحظى بشعبيّة كبيرة في منطقة البيبان (برج بوعريريج حاليًّا). وقد قام بالاتصال بالزاوية الرحمانية بقيادة الشيخ الحدّاد”. ويقترح الفيلم صوتًا ثالثًا هو الباحث في الآثار، المأمون بلموهوب، الذي يتحدّث عن شعور الشيخ الحدّاد بالاعتزاز وهو يستقبل وفد الشيخ المقراني الذي دعاه إلى الجهاد: ”كان ينتظر هذا الحدث نتيجة تفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجزائري”. وفي الثامن ماي من عام 1871، في تجمّع بسوق صدّوق (بجاية)، يرمي الشيخ الحدّاد عصاه في الأرض ويخاطب الجماهير حوله قائلاً: ”سنرمي فرنسا كما رميتُ هذه العصا”. يستعين الفيلم في سرد تلك الأحداث بمداخلات الباحثين والمؤرّخين، فضلاً عن صوت الراوي الذي يتدخّل، في أحيان قليلة، ليجمع خيوط السرد. كما يوظّف مقاطعَ من أفلام سينمائيّة وصورًا ووثائق تاريخيّة، كالصورة الفوتوغرافية النادرة لتجمّع الشيخ الحدّاد، والذي سيشكّل بدايةً لثورة مشتركة ستعصف بالفرنسيّين في سهول مجّانة، وتزحف إلى مدينة برج بوعريريج لتحاصرها، ولا تنجح القوّات الفرنسيّة في فكّ الحصار إلاّ بشقّ الأنفس، رغم العدّة والعتاد. وبالتداول؛ يستمرّ المتدخّلون في سرد وقائع تلك الثورة الشعبية التي تنجح القوّات الفرنسية في إجهاضها، بعد استشهاد الشيخ المقراني واعتقال الشيخ الحدّاد، الذي سيموتُ في السجن لاحقًا، بينما تعمد الإدارة الفرنسية إلى ابتكار أسلوب انتقامي غير مسبوق في معاقبة الثوّار، وهو النفي. أمّا الوُجهة فكانت إحدى مستعمراتها في المحيط الهندي، وهي جزيرة صغيرة تُسمّى كاليدونيا الجديدة، على بعد 22 ألف كلم من الجزائر. وشملت عمليّات الترحيل القسري أخ المقراني بومرزاق ونجلي الشيخ الحدّاد، بالإضافة إلى مئات آخرين من خيرة القادة والشيوخ والمقاتلين. وحسب الأرقام التي عرضها الفيلم، فإن عدد الجزائريّين الذين تمّ نفيهم إلى تلك الأصقاع النائية من العالم بلغ، بالضبط، 2106 جزائري. يركّز الفيلم على الجانب الوحشي واللاإنساني من تلك الرحلة التي امتدّت لأسابيع في عرض البحر، انطلاقًا من قسنطينة إلى تولون الفرنسية إلى كاليدونيا؛ فقد نفد الطعام قبل خمسة عشر يومًا من نهاية الرحلة، لكن جميع الجزائريّين رفضوا تناول طعام الجنود الفرنسيّين، وهو عبارة عن لحم خنزير مملّح، فمات عدد كبير منهم في الطريق، وصُلّي عليهم على متن السفينة ورُمي بجثامينهم في البحر.. حدث ذلك في الطريق، أمّا في نقطة الوصول فقد كان في انتظار من بقي حيًّا جزيرةٌ خالية وبعيدة، تفتقر لكلّ مقومات العيش، وأسوأ ما في الأمر، أن هؤلاء الذين أُبعدوا عن أهلهم ووطنهم، يُدركون جيّدًا أنّهم لن يعودوا إليه مجدّدًا. العودة إلى كاليدونيا نحن هنا في المرحلة الثانية، حيث تنتقل كاميرا الفيلم من الجزائر إلى كاليدونيا، لتلتقي أحفاد الجزائريّين المنفيّين، والذين وصل عددهم، اليوم، إلى 20 ألفًا من أصل 250 ألف مواطن في كاليدونيا الجديدة. وأوّل هؤلاء هو الشاب يائيل بوفناش، الذي يقف قبالة أحد موانئ العاصمة نوميا، ويتحدّث عنه، على افتراض أنه أوّل مكان شاهدوه بعد وصولهم إلى تلك البلاد. ويستعرض الفيلم شهادات أخرى طغت عليها النوستالجيا والحنين لبلد الأجداد؛ فحليمة جون التي شاهدناها في المشهد الأوّل تتحدّث عن أبيها الذي لم ير الجزائر في حياته، لكنه كان يقول دائمًا ”إنها أجمل بلد في العالم”. أمّا لوسيان علي بن أحمد، فيتحدّث عن جدّه الذي ”عاش حياةً شقيّة”، والذي أخبره بما تعرّض له ومواطنوه الجزائريّون بعد وصولهم إلى كاليدونيا الجديدة: ”كان الفرنسيّون يطلبون منهم الحفر خلال لعبهم القمار، وحين ينتهون، يطلب الفائز من أحدهم إدخال نصف جسده في الحفرة، ثمّ يطلق عليه النار”. ومثل سابقَيه؛ يتحسّر حاج كوكا بوعناني على مصير الأجداد ”الذين نجا بعضهم ومات بعضهم الآخر في البحر”. بينما يتحدّث جون طيّب عيفة عن الإذلال والعنصرية التي عاشوها هناك، مضيفًا:”المشكل أنّنا استُعملنا لاستعمار بلد، في حين أنّنا كنّا مستعمَرين في بلدنا”. كما تحدّث هؤلاء عن عدم وجود نساء جزائريّات ضمن المنفيّين، والذي تسبّب في مشكلة كبيرة، واضطرّ الرجال للزواج بنساء فرنسيّات أومن جنسيّات أخرى: ”لقد غابت المرأة حافظة العادات والتقاليد والهويّة، وهو ما يُفسّر الأسماء الأجنبيّة التي يحملها الجيل الثاني والثالث من الجزائريّين وعدم معرفتهم للغة العربية”. بحثًا عن الهوية لكن، من الواضح أن ذلك لم يمنع الأجيال الجديدة من الجزائريين، من التشبّث بجذورها والسعي للبحث عنها وإعادة الارتباط بها. يعرض الفيلم شهادات قويّة ومؤثّرة في هذا السياق، كشهادة لوسات فاطمة أوهيبة التي تقول باكيةً: ”أنا أبحث.. ينقصني شيء ما.. إنها جذوري. الأمر أشبه بالشجرة التي يُريد أحدهم اقتلاعها من الأرض، لكن يجب أن تعود حتى وإن كانت في مكان ما.. أتمنى أن يهاتفني أحد ما قبل أن أموت، ويقول نحن أهلك.. عندها فقط سأذهب بسلام”. من جهته، لعموري أحمد ميمات، الذي يحرص على تعليم أحفاده الصغار اللغة العربيّة، فيقول: ”أنا عربي.. الدم العربي يجري في عروقي”. أمّا آخرون، فخاضوا مغامرة العودة إلى الجزائر بحثًا عن الجذور.. فناتالي عيفة ذهبت إلى العلمة (سطيف) والتقت بعائلتها، ونذير بوفناش ذهب إلى جيجل فوجد مائتي عائلة تحمل لقبه، وشرب من نبع الجبل: ”شعرت بشيء يسري في عروقي”، وكريستوف سوند زار العاصمة: ”كدت أصرخ وأنا أرى الجزائر البيضاء.. كان أوّل ما رأيته هو آخر ما رآه جدّي، وهو يغادر الجزائر إلى منفاه”. وخصّص الفيلم حيّزًا هامًّا للحديث عن العديد من العقبات التي يواجهها هؤلاء في مسعاهم، مثل غياب تمثيل ديبلوماسي للجزائر في كاليدونيا الجديدة، وعدم وجود أئمة جزائريّين ومعلّمين للغة العربية، وصعوبة استخراج جواز سفر جزائري، أحدهم علّق على الأمر قائلا: ”إذا كنّا لا نستطيع العودة فهذا يعني الحكم علينا باستمرار المنفى”. مواقف وخيارات إخراجية في الأفلام الوثائقية كما في العمل الإعلامي؛ يُمكن أن نروي القصّة بحياد وتجرّد، كما بإمكاننا الانحياز إلى طرف معيّن. وفي فيلم ”مظلمة المنفى” يبدو خيار الانحياز إلى عذابات المنفيّين إلى كاليدونيا الجديدة وأبنائهم وأحفادهم واضحًا منذ البداية، أي من العنوان الذي يشي بنوع من التعاطف مع قضيّتهم، فمفردة ”مظلمة” تعني أنّ ثمّة طرفان أحدهما ظالم هو الاستعمار، وآخر مظلوم هم المنفيّون الذين وجدوا أنفسهم في بلد غريب يبعد عن وطنهم الأمّ بنحو 22 ألف كلم، بعد رحلة مريرة مات بعضهم فيها بفعل الجوع. كما يتجلّى هذا الانحياز في المداخلات التي يستعرضها الفيلم، سواءً شهادات المؤرّخين والباحثين التي ألقت الضوء على فداحة الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي بحقّ جزائريّين استبعدهم من وطنهم ورحّلهم بالقوّة إلى بلد آخر يبعد عنه بآلاف الكيلومترات، في ظروف لا إنسانية، أومن خلال شهادات أبطال القصّة أنفسهم. بالمقابل لم نستمع للصوت ”الآخر” طيلة الفيلم، والآخر هنا هو الاستعمار الفرنسيّ (أو من يتحدّث باسمه من الفرنسيّين اليوم)، ربما لأنه لا يمكن تبرير جريمة النفي وما صاحبه من وحشية في المعاملة وما انجرّ عنه من مآس إنسانيّة. لعلّ ثمّة عنصرًا آخر يبرّر هذا الانحياز، وهو أن منتجي العمل الوثائقي جزائريّون أصلاً، ولم يكن بالإمكان التجرّد من العاطفة الوطنيّة والإنسانية خلال معالجة الموضوع، بل إن الهدف الأبرز من إثارته، حسب ما يبدو، هو تقديمه للرأي العام العالمي بوصفه جريمة ضدّ الإنسانية بحسب كلّ المواثيق الدولية، ولا تسقط بالتقادم. سينما أم تلفزيون؟ ولكن ما الذي أضافه العمل لسلسلة سعيد عولمي التي فتحت ملفّ المنفيّين إلى كاليدونيا الجديدة، بعد أن كان مسكوتًا عنه لسنوات طويلة؟. لعلّ المخرجين لم يضيفا الشيء الكثير من حيث الشهادات والقصص الإنسانية، لكنهما حاول التركيز على رحلة البحث عن الهوية لدى الأجيال الجديدة، كما اهتمّا بالعقبات التي تواجههم في ذلك، ومنحا الكلمة لبعضهم للحديث عن صعوبات يعانونها مع الإدارة الجزائرية، التي يصفها جون طيّب عيفة، بالسيّئة، مستدلاًّ بتجربته ”المريرة” مع استخراج جواز سفر، وهذا الطرح يختلف تمامًا عن طرح عولمي الذي ركّز على مجهودات السلطات الجزائرية في ربط أحفاد المنفيّين بجذورهم في الجزائر. ويُمكن فهم الأمر في أن العمل الجديد أنتجته جهة ”مستقلّة”، بينما أُنتج العمل القديم في إطار التلفزيون العمومي. وبعيدًا عن قصّة الفيلم وعدالة القضيّة التي يتبنّاها وأهميّة الشهادات والمداخلات التي يتضمّنها، فإن عرضه ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان هران للفيلم العربي ضمن فرع الأفلام الوثائقية، يستدعي طرح التساؤل عن جنسه: هو فيلم وثائقي أم تلفزيوني؟ لعلّ كلّ من شاهدوا الفيلم سيتّفقون على أنه تلفزيوني من كلّ النواحي، ولم يعتمد أيّةً من أدوات السينما وتقنياتها، بل استخدم أسلوب تقريريًّا غاب عنه التخييل وأغرق في البساطة والتقليدية، (دون أن ينقص ذلك من القيمة التوثيقية للعمل). ولا شكّ أن أصحابه لا يدّعون أنّهم قدّموا عملاً سينمائيًّا.