وجوه البشر•• أعترف أني مهووسة بها منذ وعيت على ذاك الوجع القابع في أعين الناس•• عادة ما ينصرف العامة إلى قراءة الصحف صباحا•• أما أنا فتراني منشغلة بتصفح وجوه الخلق•• في الطرقات في الحافلات في الأسواق في السيارات•• لا شيء يخبرني بما يجري وما يحدث في البلد مثل تلك الوجوه التي أتعثر بها من الصباح إلى المساء•• فيها أقرأ وضع البلد برمته•• وأعرف كل الحقائق والمعلومات المتعلقة بوضعية البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمطبخية•••• كل شيء وأية معلومة مهما كانت تجدها مدونة بلغة ما بطريقة ما على هذا الوجه أو ذاك•• ثمة وجوه تشعرك أنك فارغ من وجهك•• أنك أصبحتها بشكل ما•• ففيها تقرأ ما لم تكتبه يد وما لم يدونه كتاب•• هي عادة أدمنتها حتى أني صرت أعرف كيف أدخل هذا الوجه من النظرات التي تشبهني وكيف أخرج منه إلى تجربة وجهية تالية تجعلني أسافر نحو أبعاد أخرى•• نحو أسئلة أخرى•• الوجه الآدمي أخصب تربة لزرع الأسئلة وجني الأجوبة•• إنها موطن المعاناة والدهشة الأصيلة•• من الوجوه من تقودني صاغرة وعلى نحو ما إلى مستخلصات القلق والمجهول•• ومن خلالها أحاول استنطاق الأشياء، ما حدث ولم يحدث، ما جرى وما لم يجر، ما كان وما سوف يكون•• وجوه أخرى تكشف لك ما كانته وما لم تكنه•• وما قالته وما لم تقله•• وما فعلته وما لم تفعله•• ما تحملته وما اقرفته•• فتجعلك نهبا لأسئلة لا تريد أن تعرف الإجابة عنها•• هناك وجوه تغنيك عن قراءة أشهر الجرائد وأحسن الكتب•• ومن النظرات وحدها تتكشف على أسرار وأسرار وتنخرط في أوجاع وأوجاع•• فمنها من يوحي لك أنها اقترفت أبشع الجرائم وثمة من ترى فيها ذلة وانكسار أضعف الضحايا•• يكفي أن تنظر إلى وجه أحد الركاب في حافلة باش جراح أو براقي مثلا لتعرف كم سعر الكيلو من البطاطا وكم ثمن كيلو اللحم الأحمر والأبيض، تعرف كم ثمن صفيحة الزيت•• علبة الحليب كيلو السميد•• وتعرف ما بداخل طنجرة الغداء أو العشاء•• ومن الوجوه من تدهشك بفصاحتها•• وبلا أدنى مجهود تخبرك بأدق تفاصيلها النفسية والمزاجية•• صادفتني وجوه التصقت بوجهي وهجّرتني إلى أراضي الشك والحيرة•• جعلتني أخلع جسدي وألبس آخر أو لا ألبس•• احتكاكي اليومي بالوجوه علمني كيف أصنفها•• كيف أنظر إليها•• كيف أكلمها بلا كلام•• كيف أحاورها بلا لسان•• كيف أحبها•• كيف أكرهها•• كثيرا ما صادفت وأنا أخوض في بحر الوجوه ملامح تريد أن تقول شيئا ولا تقول ملامح تشي بأن صاحبها على الطرف الآخر من هذا الوطن•• ملحقا به•• وكم ترهقني تلك الوجوه المغلقة المصوبة باتجاه مجهول ما•• وجوه أقبلت من ظلمات ما ومهما حاولت ومهما اجتهدت لا تستخلص شيئا من ملامحها•• ربما بعض الخطر•• ولا أوجع من تلك الوجوه التي أرتطم بها مساء ولا تقوى على النظر إلي لفرط إنهاكها•• تراها تنوء بنظراتها في العبث المتفاقم على الجفون والشفتين فتحسها ترغب في التنصل من أشياء هي تعرفها جيدا•• أما أتعس الوجوه فهي تلك التي تغطيها صرخة محنطة•• استغاثة مكبوتة منذ آلاف السنين: أنف حكم على نفسه بالانتصاب لا يأبه لما يحدث لباقي القسمات•• عينان سكتتا عن النظر المباح وفم يربّت على لسانه وهو يمارس عادة الكلام بلا كلام•• صدقوني أحببت أن أتوقف هنا إلا أن الوجوه هجمت علي وهي تحاصر كلماتي من كل جانب•• وهذه الآن وجوه أخرى وجوه مفتوحة شرهة لنفسها وللحياة لسبب ما لا يعلمه سواها طبعا•• على أني أشعر كما الكثيرين أننا افتقدنا تلك الوجوه المقبلة عليك على الدنيا•• وجوه تنعشك بذاك الدفق المنساب من نظراتها من حركاتها•• وجوه تغدق عليك بنظرات تمسح عنك غمام دهر وأوجاع سنين•• ترى أين هي تلك الوجوه الراضية؟ تلك النظرات الحانية؟ وتلك الملامح التي تنطق رغبة ومحبة وإقبالا على أن تكون وجوها لا شيء آخر؟•• في هذا الوقت ما عدنا نصادف ذاك الحضور الإنساني المضيء الذي يجعلك تنخرط في عالم الإيجابية والفرح•• لا لوم عليك أيتها الوجوه فما أنت إلا نصّنا الرسمي•• يكتبك واقعنا كما يحلو له وتوقعك الأقدار كما تشتهي••