أظهرت الاحتجاجات التي عرفتها الشوارع والتي أتت على الممتلكات العمومية والخاصة، مجددا، غياب كلي للأحزاب و الجمعيات والنخب التي يمكنها أن تؤطر المجتمع وتنقل معاناته وتتكفل بهمومه ومشاكله، هذا الإفلاس السياسي والجمعوي حول الشباب إلى قنابل موقوتة سريعة الانفجار، وآلة دمار شامل، يكفي إطلاق شائعات لإشعال شرارة الغضب التي هزت الشوارع ، هذه الاحتجاجات تستدعى وقفة جدية من أصحاب القرار والسياسيين والنخب للتمعن فيها ودراستها وإيجاد حلول لها قبل فوات الأوان. هذه الأحداث أبانت بما لا يدع مجالاً للشك، الهوة الكبيرة بين نخب الواجهة والجمعيات التي لا تظهر إلا في المناسبات، وغياب كلي للجمعيات والحركة الجمعوية التي هجرت الميدان واقتصر جل نشاطها على إصدار بيانات الدعم تارة أو التنديد والاستنكار أحيانا أخرى، ولا تخرج من مكاتبها إلا عندما يحين موعد صرف الدعم الحكومي ثمّ تختفي مجددا، أما الأحزاب فقد أصبحت أنشطتها ، كل أنشطتها أيام الانتخابات.و أمام انصراف الكثير من النخب بدا الميدان فارغا أمام كل الذين يتقنون فن "الشيتة" وأصبحت الرياضة المفضلة لدى الكثيرين، ودمرت هذه الذهنيات كل المعالم التي يمكن الرجوع إليها لإعادة شبابنا إلى طريق الصواب، شباب أصبح يعتبر نفسه "خارج الحسابات والاهتمامات" و أصبح يعبر عن هواجسه و همومه بالسرقة و التهديم، و الكل مسؤول عن هذا الوضع المتردي و عن هذه الثقافة. وكان وزير الداخلية السابق يزيد زرهوني، قد انتقد غياب الجمعيات عقب أحداث شغب عرفتها مدينة وهران، واتهم حينها الوزير، الجمعيات، بالانحراف عن أداء مهامها الرئيسية المتمثلة في تأطير الشباب وتوجيهه، وذلك بعد أن حولت الكثير من الجمعيات وثائق اعتمادها إلى سجلات تجارية، واستعمالها في البزنسة، واعدا بتقويم وإخضاع الحياة الجمعوية إلى نظام صارم، لكن من دون المساس بالحريات في هذا المجال.وقال المسؤول السابق على قطاع الداخلية، أن البلاد بحاجة إلى جمعيات ذات مصداقية تلتزم بالعمل مع البلديات والولايات، فيما يتعلق بتحسين الحياة اليومية للمواطنين، وليس الخوض في المواضيع السياسية، مستشهدا بأحداث مدينة وهران، التي قال إنها تحصي 3348 جمعية، منها 622 جمعية ذات طابع رياضي، ومع ذلك فإنها لم تقم بما كان منتظرا منها، والحال كذلك، بالنسبة لأحداث بريان والشلف وغيرها، مشيرا إلى أنه لو تحرك عدد قليل من مسؤولي هذه الجمعيات، لما استمرت أحداث تلك المناطق لأكثر من يوم واحد. وتشير الأرقام الرسمية إلى وجود أكثر من 60 ألف جمعية وطنية ومحلية معتمدة غير ناشطة ميدانيا من أصل نحو78 ألف جمعية قانونية في مختلف القطاعات، فيما يوصف عمل الأقلية المتبقية بالموسمي كونه مقترن فقط بالمناسبات الدينية والوطنية، مما يفسر فشلها في لعب دورها كقناة حقيقية للتعبئة الدائمة، وكقوة اقتراح فعالة ومؤثرة، وعجزها في مد جسور التواصل فيما بينها وتشكيل نسيج جمعوي قوي ومؤثر.ويحتل قطاع المهن المختلفة الصدارة بوجود 3205 جمعية وطنية ومحلية، يتبعه قطاع التضامن الوطني ب 12219، أغلبها جمعيات خيرية لتقديم يد العون للفقراء والمصابين بمختلف الأمراض، يليهما كل من قطاعي الشؤون الدينية والتربية ب 12805 جمعية محلية فقط، و14100 على التوالي· كما يسجل ارتفاع نوعي في عدد لجان الأحياء الذي وصل إلى 17057 حيث يرجع العديد من الأخصائيين الاجتماعيين هذا العدد الكبير إلى مدى وعي وإدراك الشعب بضرورة التحرك الفردي المنظم في شكل تكتلات جمعوية من أجل تحسين مستواه المعيشي. وبالرغم من العدد الكبير للجمعيات إلا أن أغلبها يبقى في حالة سبت عميق ولا يظهر إلا في المواعيد الإنتخابية والمناسبات الدينية والاجتماعية، الأمر الذي يرهن استمرارية نشاطها الذي يطغى عليه الطابع الموسمي من جهة، ومن جهة أخرى أصبحت العديد من الجمعيات تختفي فجأة لعدم تمكنها من الحفاظ على وتيرة عمل متواصلة وعلاقة دائمة بمنخرطيها نتيجة الفساد وغياب الشفافية في تسييرها إداريا وماديا، مما أدى إلى تفسخ العلاقة بين المجتمع والجمعيات التي هي حسب العرف الناطق الرسمي بلسانه. وتبرز الاحتجاجات الأخيرة حاجة البلاد إلى جمعيات قوية خاصة تلك التي تنشط في مجال حماية الشباب، والسعي لإدماجهم مهنيا وثقافيا واجتماعيا، لان الخطر القادم قد يكون اكبر، فيكفي أن تتردد في الشارع إشاعة إزالة الباعة المتجولين لإشعال فتيل النار مجددا، وهل سيبقى الشباب عرضة للشائعات المغرضة التي قد تقف خلفها أطرافا خفية تسعى لتحقيق أهدافها هذه الوضعية تتطلب من الفاعلين وقفة حقيقية ومراجعة واقعية، لان الحل الدائم لا يكمن في خفض ضريبة على سلعة ما، بل تدابير جريئة تعيد الثقة للشباب، بعيدا عن الشعارات والخطابات التي شرب منها الشباب حتى الثمالة ولم تجدي نفعا، ويتطلب الأمر فتح قنوات اتصال مباشرة مع الشباب والنزول إلى الميدان ومقاسمة المحرومين معاناتهم.فقبل ثلاث سنوات عقدت الحكومة اجتماعا مع الولاة لوضع إستراتيجية للتكفل بمشاكل الشباب، ورغم التدابير التي تم إقرارها آنذاك، إلا أن الأمور لم تتغير بالشكل الكافي، أو على الأقل لم تكن في مستوى طموحات وتطلعات الشباب، وقد أبانت التقارير التي عرضتها آنذاك مختلف اللجان حول واقع الشباب، الصعوبات التي تواجهها الحكومة لإقناع البطالين وبالأخص من فئة الشباب بجدوى الإجراءات المتخذة لمكافحة البطالة، وهو ما يؤكد وجود عجز في التواصل مع الشباب.وقد اظهر تحقيق ميداني اجري على عينة من 500 شاب، أن قرابة 70 بالمائة منهم يعتبرون أن الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمكافحة البطالة غير ناجحة سواء نصفهم يتحدثون عن فشل الإجراءات الحكومية في هذا المجال، والنصف الأخر يعتبرها غير كافية، مقابل 19 بالمائة فقط يعتبرون أن الدولة نجحت في هذه المهمة. وكشف التقرير ذاته، أن 70 بالمائة من العينة التي شملها التحقيق، يزاولون أنشطة تجارية صغيرة (بيع التبغ، الهواتف النقالة، الألبسة) وهذا النشاط الموازي يمس شباب ذوي مستويات دراسية مختلفة قرابة 13 بالمائة منهم حاملين لشهادة التدرج (ليسانس) أو شهادة مهندس و 6 بالمائة حاملين لشهادة البكالوريا و 35 بالمائة حاصلون على شهادة التعليم المتوسط. هذه الحقائق التي يتوجب التوقف عندها، تستدعى من الحكومة خطوات جريئة تجاه الشباب، والتواصل معهم، لان الكثير من التدابير التي وضعتها الحكومة لم تجد لها صدى بين الشباب العاطلين عن العمل بسبب غياب هذه القنوات أو شحها، وعند فتحها يتسابق الانتهازيون عليها للتقرب من السلطة لتحقيق مآرب شخصية بدل نقل معاناة الشباب الحقيقية، كما تتطلب من النخب والمجتمع المدني، النزول إلى الميدان واستعادة المبادرة من أبواق الفتن التي حولت الشباب إلى طعام للحوت في البحر المتوسط أو قنابل موقوتة جاهزة للتفجير.