الجزائر تبحث عن "رشدها" على باب الخمسين يحيي الشعب الجزائري اليوم الخامس جويلية الذكرى التاسعة والأربعين لاستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية والجميع في مفترق الطرق على الصعيدين الداخلي حيث ورشة الإصلاحات السياسية التي ينتظرها الجميع مفتوحة على مصراعيها في انتظار النتائج، وعلى الصعيد الخارجي بالنظر للأحداث المتسارعة التي تعرفها المنطقة العربية مند بداية العام الجاري. بعيدا عن الاحتفالات الروتينية البروتوكولية التي ألفها المواطنون عند كل خامس جويلية من كل عام التي تذكره بتاريخ استعادة السيادة الوطنية، وبعيدا عن الخطابات المتكررة التي يطلقها المسؤولون عند حلول هذه المناسبة فإن الكل مدعو للنظر قليلا للوراء ونحن على مقربة من نصف قرن من عمر دولتنا الحديثة التي أفرزتها حرب التحرير الوطني. الالتفات للوراء للنظر فيما تحقق وما لم يتحقق سياسيا ومؤسساتيا ومعنويا من تلك الأهداف التي جاءت في بيان أول نوفمبر 1954، لكن الصورة تبدو للوهلة الأولى قاتمة نوعا ما سواء بالنسبة للمسائل العالقة بين الجزائروفرنسا ونقصد حرب الذاكرة والاعتذار والاعتراف بجرائم المستعمر في حق الجزائريين، أو على المستوى الداخلي حيث لا نزال نبحث عن البوصلة التي توصلنا لبناء دولة حديثة بمؤسسات صحيحة. الخامس جويلية هذا العام يأتي إذن والسلطة السياسية العليا في البلاد تفتح ورشة كبيرة ومعقدة هي ورشة الإصلاحات السياسية الشاملة والعميقة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة في خطابه للأمة يوم 15 أفريل الماضي، والتي حدد معالمها بيان مجلس الوزراء للثاني من شهر ماي الماضي، فالرئيس قطع عهدا بينه وبين الشعب من اجل إجراء إصلاحات سياسية عميقة تكون في مستوى تطلعاته، وقد باشر المرحلة الأولى من هذا المسار يوم 21 ماي الماضي عندما بدأت هيئة المشاورات حول الإصلاحات التي يرأسها عبد القادر بن صالح لقاءاتها مع الأحزاب والشخصيات والمنظمات والهيئات الوطنية، لقاءات تسمع خلالها لكل شريحة وتتلقى منها اقتراحات ووجهة نظرها حول الإصلاح المنشود. وبعد شهر من اللقاءات استكملت الهيئة المرحلة الأولى في انتظار التقرير الذي سترفعه لاحقا لرئيس الجمهورية، لكن عمل هذه الأخيرة نغصته أحزاب تحسب على المعارضة وشخصيات عندما رفضت تلبية دعوة هيئة بن صالح تحت مبرر واحد هو أن المشاورات هذه لن تؤدي إلى أي نتيجة مرجوة. لكن في الجانب الآخر كشفت المشاورات حول الإصلاحات السياسية على لسان المشاركين فيها على أننا وبعد 49 سنة من استعادة السيادة الوطنية لا زلنا بعيدين عن دولة المؤسسات بأتم معنى الكلمة، ما يعني ببساطة أن الطريق لا يزال طويلا وشاقا ومعقدا، لكن عندما نلتفت للخلف يعني ذلك أننا لم نحقق الكثير على مدى نصف قرن تقريبا، إن لم نقل أننا لم نحقق أي شيء على الصعيد المؤسساتي والقانوني. اليوم وفي هذا الخامس جويلية تتعالى أصوات الجزائريين من أجيال مختلفة وان غلبت عليها حناجر الجيل الجديد مطالبة ببناء دولة المؤسسات دولة القانون، دولة ديمقراطية يعيش ويتعايش فيها جميع الجزائريات والجزائريين كما حلم بها الآباء المؤسسون ذات يوم، هنا فقط ندرك أن مسيرة النصف قرن لم تكن ناجحة بالقدر الذي كان يسوق لنا. الإصلاح الذي يلح عليه الجزائريون في هذا الخامس جويلية وان كان نابعا من الداخل إلا انه لا يمكن إغفال ما يجري حولنا في المنطقة العربية من أحداث دراماتيكية فعلا عصفت بسلط وأنظمة بعد عقود من الحكم، أحداث تداخلت فيها مصالح القوى الغربية الكبرى ومطالب الشعوب المقهورة بسنين من الكبت والغلق وأدت في النهاية إلى نتيجة كارثية كما يحصل منذ خمسة أشهر في ليبيا، حيث تلاشى كل شيء من الدولة، إلى النظام إلى السلطة إلى المجتمع والقبيلة وغيرها تلاشي يعطي صورة واضحة عن هشاشة المؤسسات الحاكمة مند عقود من الزمان والمشهد قابل للإسقاط على دول المنطقة برمتها، وهذه الصورة تدعو الجزائريين اليوم إلى التفكير جديا في كيفية صيانة الاستقلال الذي أفتكه آباؤهم قبل 49 عاما بالذهاب نحو إقامة مؤسسات قوية تسير عليها الدولة مستقبلا. إذن بعد 49 عاما عن الاستقلال لم يتم الحسم بعد في الملف الأول الذي تحدثنا عنه سلفا، وهو اختيار وبناء المؤسسات التي ستقوم عليها الدولة أما الملف الثاني الذي بقي عالقا أيضا طوال هذه المدة فيكمن في طبيعة العلاقة مع الطرف الآخر الذي كان بالأمس مستعمرا لهذا البلد، فالعلاقة السياسية والتاريخية بين الجزائروفرنسا لا تزال غير مستقرة.. شد وجدب من هنا وهناك.. وفتور وبرودة في أحيان وعودة إلى الحالة الطبيعية أحيانا أخرى.الجزائر المستقلة لم تستطع إقناع فرنسا الرسمية اليوم بضرورة تحقيق مطالب الشعب الجزائري المتمثلة في الاعتذار والاعتراف بالجرائم التي اقترفتها فرنسا الاستعمارية في حقه، وظل الوضع هكذا متشنجا ومشحونا بين الطرفين بخصوص ملف الذاكرة، فلا فرنسا استطاعت التقدم ولا الجزائر استطاعت الخروج من هذه الدائرة.اليوم في هذا الخامس جويلية يرتفع صوت الشعب عاليا مطالبا بفعل أي شيء وتحقيق بعض الأهداف التي ذكرت سابقا وإلا فانه لا احد يدري ماذا يخبئه المستقبل. محمد عدنان