المؤسسة الرسمية في واد والاتصال في واد آخر يجمع المسؤولون ورجال الإعلام، والمتتبعون، على ضعف الاتصال المؤسساتي في الجزائر، فبرغم الوعود التي قدمتها الحكومات المتعاقبة، والوزراء المكلفين بحقيبة الاتصال، لم تتمكن المؤسسات الرسمية من كسر "حاجز الصمت" الذي تكرس طيلة عقود من الزمن، ولا يزال تقديم المعلومة المناسبة في وقتها من طابوهات الإدارة، التي صقلتها سنوات من "كتم الأنفاس" وانتظار الأوامر الفوقية قبل تقديم المعلومة. تحرص وسائل الإعلام في الدول المتقدمة على نسج علاقات "مهنية" مع المكلفين بالإعلام والممسكين بمصادر الخبر، لتسهيل مهمة الحصول على المعلومة ونقلها في وقتها، هذه العلاقات في الدول الغربية لا تقف على "الإكراميات ومنح الهواتف والمزايا" للإعلامي مقابل تقديم هذه المعلومة، بل هي علاقة مهنية يكون كلى الطرفين رابحا، فمصدر الخبر يحرص على تبليغ المعلومة في وقتها ولو كانت سلبية حتى لا تروجها أطراف أخرى تغذي الإشاعة، والإعلامي يحرص على نقل الخبر بأمانة. قال صحفي أمريكي قام مؤخرا بالإشراف على ندوة تدريبية لصالح الإعلاميين بان العلاقة بين المكلفين بالإعلام ورجال المهنة، حجر الزاوية في أي عمل صحفي، ويقول "يجب أن يعرف الصحفي كيف يكسب بمهنيته مصدر الخبر.. وعليه في الوقت ذاته إقناعه بأنه من الأجدر له تقديم المعلومة حتى ولو كانت سلبية قبل أن يبثها منافسوه وفق ما يناسبهم". هذه العلاقة في الجزائر بين الإعلامي ومصدر الخبر في المؤسسات الرسمية تكاد تكون منعدمة، وغالبا ما تكون الاستثناء وليست القاعدة، بسبب سنوات من "السرية وإخفاء المعلومة" وهي السياسة التي صقلت الإدارة الجزائرية وحولتها إلى "أدراج" للأخبار يحظر نشرها إلا إذا وافق المسؤول على ذلك، هذه الذهنية وقفت أمام كل محاولات إصلاح الاتصال المؤسساتي، ولم تجدي نفعا التعليمات التي قدمها الوزير الأول عبد المالك سلال للإداريين، بسبب "العادات البافلوفية" لإداريين يعتقدون بان نقل الخبر هو آخر اهتماماتهم. وتحولت مهنة "المكلف بالإعلام" في المؤسسات الرسمية إلى "مكلف بالصمت" وغالبا ما يرد على أي طلب للحصول على استفسار حول موضوع ما، بان المعني في اجتماع.. أو في مهمة، أو "اترك رقمك وسنعيد الاتصال بك فور عودته".. هي عبارات تستخدم حتى لا يقال للإعلامي "استفسارك لا جواب له عندنا"، حيث يواجه الصحفيون ورجال الإعلام صعوبات كبيرة في التواصل مع المكلفين بالإعلام على مستوى الهيئات الرسمية، في إطار مهامهم اليومية، رغم أن التعامل مع الصحفيين يدخل في صلب مهام هؤلاء الموظفين. هذا الرفض في تزويد الإعلاميين بالخبر، أثار امتعاض الوزير الأول عبد المالك سلال الذي انتقد، إحجام بعض المسؤولين عن مد الرأي العام بالمعلومات، ما يفسح المجال أمام الدعاية والإشاعات، واعترف سلال، بوجود خلل في إيصال المعلومات الصحيحة للقضاء على الدعاية، وقال بأنه يجهل سبب هذه الإشكالية، ولخص سلال الوضعية بالقول بان "المؤسسة في واد والاتصال في واد آخر" ويعترف المسؤولون، بان الامتناع عن تقديم المعلومة الصحيحة في وقتها مهما كانت طبيعتها، فتح الأبواب وحتى النوافذ أمام الإشاعات لدرجة انه حتى عندما يصدر تصريح من مسؤول ما تنتشر معلومات مضادة لتكذيب ما جاء على لسان الرسميين، وقد برز ذلك جليا خلال الفترة التي قضاها الرئيس بوتفليقة في فرنسا للعلاج، حيث انتشرت أخبار كاذبة صدقها الكثيرون ولم يأبهوا بالتصريحات التي كانت تصدر عن المسؤولين. ويشير مختصون إلى وجود أزمة عميقة في اتصال المؤسسات الرسمية مع الصحافة والمجتمع، ومأزق حقيقي في انخراطها في عالم التواصل الشبكي على الأنترنت. وقال المدير العام السابق لوكالة الأنباء الجزائرية، بدر الدين الميلي، خلال الملتقى الذي نظم حول موضوع الاتصال المؤسساتي إن "أزمة مرض الرئيس وفضائح سوناطراك كشفت وجود تضارب بين المؤسسات الرسمية، مس بمصداقية المؤسسات المكلفة بتسيير الشأن العام، في مقابل الدعاية التي أخذت حيزا كبيرا في الساحة، وهو ما شكل تهديدا للأمن، وأثر بشكل بالغ على صورة الجزائر في الخارج". وأوضح الميلي أن "هناك نفورا عاما ومقاطعة لأي أمر تقوم به الدولة"، مشيرا إلى أنه "وبرغم نجاح الدولة في مكافحة الإرهاب، وتسيير مرحلة بالغة الخطورة كتلك المرحلة، إلا أن المؤسسات الرسمية تعاني أزمة عميقة، في الوسائل والتنظيم والعصرنة". واعتبر الميلي أن الاتصال المؤسساتي هو آخر اهتمامات الدولة، لدرجة أن معاقبة الإطارات تكون بتوجيههم إلى هياكل الاتصال". وقد عاش وزير التربية، بابا احمد بمرارة هذه التجربة، عندما وجد نفسه في مواجهة الإشاعة ضربت مصداقية أول شهادة في الجزائر وهي "البكالوريا" وذلك نتيجة لعملية تضليل تعرض لها التلاميذ عبر شبكة التواصل الاجتماعي "الفايسبوك". وتحولت الإشاعة إلى وقود لاحتجاج الطلبة، قبل أن تتحول إلى قضية دولة واستدعى الأمر تدخل الوزير الأول عبد المالك سلال لطمأنة المترشحين. كما وجهت انتقادات للحكومة بسبب تسييرها لملف الاعتداء الإرهابي على مصنع إنتاج الغاز في تيقنتورين، وهو ما فسح المجال أمام بعض القنوات والمواقع الالكترونية التي وجدت الفضاء مفتوحا أمامها لنقل أكاذيب ونشر ما يقوله الإرهابيون في ظل صمت رسمي، واقر مسؤولون حينها، بحصول نوع من الارتباك في الساعات الأولى بعد وقوع الحادثة بسبب حساسية الوضع، كونه يشكل سابقة في تاريخ الجزائر، ويرى المسؤولون بان هذا الوضع تم تداركه فيما بعد من خلال التصريحات التي صدرت عن مسؤولين حكوميين سمحت بتوضيح الصورة للجزائريين والأجانب. ولمواجهة هذه النقائص تعهد وزير الاتصال عبد القادر مساهل بالتواصل مع مختلف وسائل الإعلام الوطنية مستقبلا وباعتماد سياسة اتصال واضحة ودائمة، وقال أنه لا توجد "محظورات" بالنسبة إليه، وأن وزارته على وشك الانتهاء من وضع استراتيجية للاتصال المؤسساتي، داعيا كل وسائل الإعلام لاعتماد النزاهة والمصداقية ونقل الصورة الحقيقية للجزائر. وأعلن وزير الاتصال عن فتح صفحة جديدة مع وسائل الإعلام الوطنية فيما يتعلق بالاتصال المؤسساتي، وطمأن رجال الصحافة بأنه مستعد لضمان الاتصال معهم في المستقبل وتوفير كل المعلومات والمعطيات التي تحتاجها الصحافة الوطنية. وقال الوزير الذي ذكّر بأن عائلته الأولى هي الصحافة، أنه لا توجد "طابوهات" لديه، وأنه على وسائل الإعلام الوطنية أن تلعب الدور المنوط بها في نقل الصورة الحقيقية عن الجزائر بكل مصداقية. أنيس نواري