الكاتبة التي خسرها الأدب الجزائري مرتين حلت يوم أمس 19 ماي، الذكرى الأولى لرحيل طفلة مسكيانة، الكاتبة يمينة مشاكرة. كراس الثقافة في عدد اليوم، يفتح نافذة تطل على سيدة العزلة وعلى أدبها وعلى مغارتها وآريسها من خلال شهادات ودراسات ومقاربات نقدية طرقت أدبها وشخصيتها الأدبية والإنسانية التي شكلت حلقة متعددة ومتفردة في مسيرتها، في هذه الوقفة التي تستعيد صاحبة "المغارة المتفجرة" التي اعتبرت رواية مرجعية، محطات استوقفت المهتمين بأدبها. إذ يحتفي بها اليوم بعض الكُتاب والنُقاد في ذكرى غيابها، وفي هذه الشهادات احتفاء أيضا بأدبها وإضاءة عليه بغرض استدعائها هي التي خسرها الأدب مرتين مرة حين خرجت منه ومرة حين خرجت من الحياة. إستطلاع/ نوّارة لحرش أحمد خياط/ كاتب ومترجم وأستاذ في جامعة مولود معمري- تيزي وزو أعمالها تشكل لغزا فنيا معقدا تتوافق معظم الآراء في أن أعمال يمينة مشاكرة تشكل لغزا فنيا معقدا ولم تفلح بهذا التصور في فسح المجال لهذه النصوص كي تمارس انفتاحها وتعبر عن انكساراتها، بل أسهمت في انسداد هذه النصوص وانغلاق خطابها. إن محاولتنا تزعم أنها ستمسك بمؤشر السرية وستدفع بالخِطاب الذي يهدد النص بحجبه ويراهن على القول المكبوت، إلى الظهور فتضع مجالا لتحدي الرقابة الذاتية وتسهم في تكسير سلطة الصمت وإنطاق النص وتجاوز عطالة الانغلاق. لن نتوقف عند بنية هذه النصوص السردية لأن ذلك يتطلب منا عملا منهجيا شاملا لإبراز كل الجوانب المؤسسة كالشخصيات والأحداث، ولا غرو أن نهمل ذلك ونتوقف عند مؤشرين. أولا: المدينة التي لطالما أنهكت تصور الكثير من الأدباء الجزائريين منهم مالك حداد والطاهر وطار وبن هدوقة وكاتب ياسين وبوجدرة وقصص السعيد بوطاجين حيث المدينة مجال للبحث عن تموضع الذات، إلا أنه شبكة من الرموز على شكل منشأة هندسية توحي بالمغارة السحيقة أو ضريح موحش تقول في "أريس" العبارة التالية: "آه، لهذا القبر الموحش لهذه المدينة.". ثانيا: الهاجس المخيف الذي يكمم الأصوات إذ تحاول أن تنطق لتسكت، إلا أن الكاتبة ترفض الهزيمة وتعلن الهيمنة في السرد بمفهوم تودوروف أو من خلال الوظيفة الأيديولوجية بتقمص أصوات السرد حسب جيرار جينات بحثا عن الانتفاضة كقولها: "إلهي، هنا أمر آخر، إنها المدينة حيث البرد وحيث لا يشعر أحد بأوجاع الضائعين". لعل الكاتبة لم تتحرر من عالم كاتب ياسين الذي يرفض كلمة سكان لأنها مفرغة من شحنتها التاريخية ويفضل كلمتي بشر وشعب، فيما أرادت الكاتبة أن تتحدث عن الذين يقتاتون على الصبر في وجه كل شيء. يكتفون بفُتاة الشمس من الضوء ويكابدون ما تبقى للنفس من برد الحرمان وصقيعه. عندما تقتفي خيط الأحداث في نصوصها تكاد لا تمسك بشيء كأنك تقرأ في الوهم تماما. جنون كاتب ياسين الذي يتحول إلى شعرية رائقة ولكنه يعض بقوة كشبق بودلير حين يرفض الإعلان، كذلك شعرية مشاكرة ترفض للنص أن يحدد معالم المدينة الهاجس. تقبل أن تكون الكلمات مفازة إلى الموت بدل البوح والإشهار والتصريح. إحساس بالوجود منظومة عضوية منسجمة ولكن إدراك الميولات المتضادة التي تنبثق من الحركة الدينامية للحياة تطمس الأنا وشعوره المطلق لأنها لا تقبل الفوارق الجزئية التي يفرزها رحم الطبيعة الخادعة. إن الذات تشعر بالانسداد في دوامة الحوارات الباطنية فلا تعترف بسعادة ممكنة وترفض في ذات الوقت أن يكون مصير الكائن من قبيل محاولات أنطولوجية خواء، يتحكم فيه وجود آخر مغاير لمعتقداتنا، نظل نجهله طالما لم نتخلص من قوة الإرادة العمياء لنحدث الانقلاب الحقيقي من خلال الانفجار. قناعة ترى الوجود طرفي نقيض، عالم تزحزح طبيعته الزائلة قوة مجهولة باتجاه مطرد يظل مصير البشر فيه مرهونا وسعادته حبيسة الصدمات. يمكن لهذه الدوامة أن تتعزز أكثر بفعل حوارية ثقافية لمجموع الآراء والأفكار المتقاربة الثاوية كقناعات لأجيال من الكُتاب ليبدأ العبور كنظام لساني تأويلي على نحو مُعقد ومتواتر يتراوح بين الانفتاح والتباين والحفاظ على الهوية، يلائم بين الصوفية والمنطق وبين الذوق الجمالي والانفعال. هذا هاجس الإنسان الذي ضيع الفاطوم الأول الذي يرعى شؤونه فلجأ إلى المغارة وقد افتقد إلهه فرأى للشر سيادة على الخير حتى كأن الشر أصل والخير فرع فما عسى أن تكون الكِتابة إلا بحثا عن قدر أصيل تتجاوز كل التكهنات نحو بقاء يكون الموت فيه مجرد لحظة تافهة. هكذا يلتقي الأنا فاطومه الأول ولا يتنازل للشر الذي قال فيه هايدغر الجزائري يوسف سبتي "إنه هنا مزروع، مغروس، هو على قدم وساق منذ عهد لا يستطيع أحد تأريخه، جناه الناس". وأما المغارة فهي هذه الحمولة بين ضفتين، المتاهة اللعينة بين الجنون والإغراء الذي يمتص من الكائن سبب وجوده ويحوله إلى مجرد كائن مُلقى عرض الزمن. ظل الشاعر ريلكي يحاول أن ينزع الغطاء عن هذه المغارات ليحدث فيها رجة ما. لم يفلح لأنه وقع أسير عشق ولما سأله صديقه الشاعر الفرنسي فليري عن منابعه الفلسفية قال له مرة: "إن التأثير العميق الذي تسأل عنه، هو لقائي بأحد الكلاب، والساعات الطويلة التي كُنت أتابع خلالها حركات أصابع خراز في روما كيف تصنع بإتقان نبضات العالم، وذلك الحرفي على ضفاف النيل الذي ألهمني الصدق ودلني على مكمن السر في الوجود، والرعاة الذين جعلوني أكتشف جمال الطبيعة. بعد كل هذه التجارب الإنسانية أرفض أن أبوح لك عن المنابع الأخرى الأكثر أصالة". ستبوح لنا نصوص يمينة مشاكرة عن أصالتها لاحقا. محمد عاطف بريكي/ شاعر ومترجم ذلك الكائن المالينخولي السعيد بالرغم ما قيل عن عوالم يمينة مشاكرة الآتية من الطب النفسي الاجتماعي إلى الكتابة الروائية لا يوفي الشكل النهائي للألم الذي عاشته في خضم حياة صاخبة وانطوائية (64سنة)، في نفس الوقت كانت مشاكرة وحدها من صاغت هذه الثنائية المتناقضة في حياة عاشتها بحلوها ومرها انتهى بها الأمر إلى مرض لطالما كانت تعالج مرضاها منه. كل من عرف الروائية عن قرب يمكن له فك تلافيف شخصيتها الانطوائية وشفافية روحها القابلة للعطب بأدنى كلمة إلى درجة أنها كانت تميل إلى الحديث والجلوس مع الصغار ولا تجد ما تتقاسمه مع الكبار كما جاء في شهادة ابن أخيها الصحفي شوقي مشاكرة. لقد كانت في عزلة يمينة مشاكرة عوالم كبيرة من السعادة التي يصفها فيكتور هيجو بقوله: "المالنيخوليا هي السعادة في أن تكون حزينا" حزن قاد الكاتبة الولوج إلى "المغارة المتفجرة" سنة 1979 ثم الوصول بعد عقدين من الزمن إلى "آريس" سنة 2000، روايتين للكاتبة تفصل بينهما مسافة شاسعة، طريق طويل من الأسى والألم والسكوت والتهميش والحزن عانته يمينة مشاكرة في صمت لكنها مع ذلك كانت سعيدة في عالمها الانطوائي في سيل قصائدها النثرية الممتدة الجارفة الحارقة لكل معاني الألم بدواخلها، فسعادة مشاكرة لا يمكن فهم كنهها أو عيش تلافيفها أو تفسير شكلها بمعيارنا نحن الأصحاء، ذلك الهدر المقاوم للجنون والواقف على عتبات الذي يبدو لنا "هوس" هو ما أسس عوالم يمينة مشاكرة المانيخولية وتلك التفاصيل الدقيقة للحياة وأفانينها في السرد إنما تحادر بها فقدان الوعي التام لذا كان أسلوبها الروائي انفعالي وحاد. كيف للإنسان أن يحتمل مكوثه في هذا العالم، لولا تلك الضروب من الوهم الجميل (الكتابة، الفنّ، المُثل العليَا، شرائع الخلاص المزعوم...)، عدا ذلكَ فإنّ الحقيقة لا تُؤدّي إلّا إلى ثلاثة طُرق: اللّامبالاة المطلقة (وهي درجة عُليا من الحصافة) أو الجُنون (وهو عينُ الوعي بالعالم) أو الانتحار، إن قمة الحزن لدى مشاكرة إنما هو قمة السعادة فالحزن في حد ذاته مصل مضاد لنفسه، كانت مشاكرة في حياتها تعمل على حكمة أبيقور حيث تُعدُّ الإيتيقا الأبيقوريّة وصفةً مثاليّة لحياة المالينخولي السّعيد: الالتذاذ في حدود المتاح، تجنّب كلّ ما يشكّل مصدرًا للآلام، عدم الخشية من الموت ولا من القوّة المفارقة، القدرة على تنسيب الألم والمصالحة معه. لذا كانت بعيدة عن عوالمنا الكاذبة المليئة بالأضواء الكاشفة والنفاق الظاهر والسعادة المزيفة، لقد تركت لنا كل شيء ورحلت بعيدا إلى عالمها المالينخولي المحفوف بالسعادة حيث لا خشيةَ من شيءٍ إذنْ ولا أمل في شيءٍ، لا انتظارات ولا خيبات. يكفي الالتذاذ بما هو متاحٌ، لأنّ اللّذّة مصدر كلّ خير وفق المعلّم "أبيقور"، والخيرُ كلّ الخير في تجنّب كلّ ما يسبّب الألم فإن كل الألم في هذا العالم الحقيقي حيث الاقتتال والضغينة والمسؤوليات... ببساطة عاشت يمينة مشاكرة في عالمٌ لم تكن فيه، وليست منه، ولا معه وفي أواخر حياتها أرادت أن تستفيق لكنها اصطدمت بالحقيقة فانتحر عقلها. مرزاق بقطاش/ روائي كان في مقدورها أن تقدم الشيء الكثير بفضل معرفتها بالعديد من الجوانب النفسية للإنسان الجزائري لست أدري لماذا أشعر بالغبن كلما ورد اسم الروائية الراحلة يمينة مشاكرة. لم أقرأ لها إلا روايتها الوحيدة "المغارة المتفجرة" في أواسط الثمانينات من القرن المنصرم. أما الشعور بالغبن فهو ناجم -حسب ظني- من أنها كانت قادرة على كتابة أشياء عديدة لأنها كانت تعرف وضعية المرأة الجزائرية معرفة وثيقة عميقة بحكم ممارستها للطب النفسي وبحكم زياراتها المتعددة لمختلف مناطق القطر الجزائري. لقد تحدتني ذات يوم بقولها: "أنا أعرف الجزائر أفضل منك أيها الأديب الصحفي". وقد كانت بالفعل أعرف مني بالجزائر مدنًا وقرى، جبالا وصحاري. غير أنني مازحتها بقولي: "يستحيل أن تعرفي بحار الجزائر وشواطئها أحسن مني!". أعرف عنها أنها كانت تعيش في غرفة مفردة بمستشفى الأمراض العصبية "دريد حسين". لكأنما كانت منبوذة من أهلها. وقد يعود ذلك إلى أنها كانت لا تملك لسانها إن جاز التعبير. وقد تأكدت من ذلك خلال سهرة من السهرات لدى أحد الأدباء الجزائريين. مضت تتحدث دون توقف عن أسرتها وعن الأماكن التي زارتها وعن علاقاتها بالمرضى الذين تعالجهم. وأتذكر الآن أنني سألتها: "ولِمَ، يا تراكِ، لا تطرحين كل هذه الصور والأفكار والمشاعر على الورق؟". أعتقد أن يمينة مشاكرة كانت تعاني ضغوطا نفسية دفعتها إلى أن تركز جهودها كلها على الحالة الأنثروبولوجية للإنسان الجزائري، لا من أجل فهمه فحسب، بل، ومن أجل إيجاد حلول للمشاكل والعُقد النفسية التي ورثها عن الاستعمار الفرنسي والمتولدة عن الإرث التاريخي الثقيل في نطاق العلاقات بين الفرد والفرد، وبين الفرد والمجتمع كله. لقد خسرنا أديبة كان في مقدورها أن تُقدم لنا الشيء الكثير عن أنفسنا، لا كحالات وجدانية، وإنما كتحليل معمق لأنفسنا بفضل معرفتها بالعديد من الجوانب النفسية للإنسان الجزائري. سامية بن عكوش/ باحثة أكاديمية وكاتبة أديبة بوزن البارود وشخصية تلخّص مأساة ذات أبعاد متعدّدة "إنّ امرأة تكتب في بلادنا تساوي وزنها بارودا" بهذه العبارة الموحية قدّم الكاتب الجزائريّ كاتب ياسين رواية "المغارة المتفجّرة" للرّوائية والطبيبة النّفسانية الجزائرية، يمينة مشاكرة. وإنّ قوة الإيحاء في كلمة البارود ورمزيتها الثورية يلخّص القيمة الأدبية للأديبة ولكتاباتها. فالبارود يوحي بالثورة وخرق الصمت في الآن ذاته. مثلما ارتبط بنضال الجزائريين ضدّ الاستعمار الفرنسيّ. وإنّ أدب يمينة مشاكرة "بارود" بمعنييه الحرفيّ والمجازيّ. الحرفيّ لارتباطه بالثورة الجزائرية، كون روايتيها، "المغارة المتفجّرة" و"آريس" سرد متميّز عن الثورة الجزائرية، وثورة في الآن ذاته على شكل الرّواية الجزائرية التي كُتبت في فترة السّبعينات وموضوعاتها. فما حاجة الأدب الجزائريّ إلى دراسة أدب يمينة مشاكرة، وماذا تمثّل الأديبة في المشهد الأدبيّ الجزائريّ، رغم أنّها ليست من المكثرين؟. إنّ شخصية يمينة مشاكرة تلخّص مأساة ذات أبعاد متعدّدة. أوّلا إنسانية كونها عايشت جرح الثورة الجزائرية بكلّ بشاعته، وهي في سنّ الطفولة، حيث كان بيت الوالد مأوى لتضميد جراح المجاهدين أيام الثورة، كما أنّ ذاكرتها الطفولية احتفظت بصوّر التنكيل بالمجاهدين، الذين تتعمّد فرنسا استعراضهم أمام التلاميذ في المدرسة التي تعلّمت فيها يمينة. ولأنّها كبتت مأساتها، فإنّها تحوّلت إلى شخصية انطوائية. وثانيا مأساة نفسية لطبيبة نفسانية وأديبة تجد نفسها رهينة المصحة النّفسية التي عالجت فيها مرضاها لسنين، رفيقة الوحدة والتجاهل والألم. ولم تستطع أن تظفر حتى بشقة تحفظ كرامتها. ومن هنا ستظلّ يمينة مشاكرة جرحا ينزف فينا، يعرّي سياسة التهميش والإقصاء الذي يمارس في حقّ أذكياء وذكيات الجزائر. رابعا مأساة ثقافية لأديبة انطوت على أحزانها، لم تجد فضاءا للتعبير عن ملكاتها الأدبية غير المصحة النّفسية. ولم تجد غير الكتابة كشكل وحيد للتواجد داخل وخارج الحياة. إنّ عمر يمينة مشاكرة روايتين، "المغارة المتفجرة" أصدرتها 1979، و"آريس" أصدرتها 2000، وإنّ الحياة في الزمن الفاصل بين الرّوايتين هو رديف الموت بمعناه الرّمزيّ، ففي شطره الأوّل في بداية الثمانينات خصّصته يمينة لمعالجة الأعراض الأولّية لمرضها العقليّ، وفي شطره الأخير استسلمت للمرض وعانقت الجنون، لتعيش الألم والتجاهل والكتابة في الآن ذاته. إنّ استسلام طبيبة نفسانية لمرض عالجت مرضاها منه لسنين، يكشف عمق الأزمة الإنسانية في جزائر ما بعد الاستقلال. أما بالنّسبة لأدب يمينة مشاكرة فإنّ ما خلّفته من روايتين، وما تركته من ثلاث مخطوطات غير منشورة حسب شهادة ابن أخيها، يضع المشتغلين على الثقافة والأدب والنّقد في بلادنا أمام مسؤولية جماعية. أوّلا يجدر بوزارة الثقافة نشر أعمالها التي تركتها في شكل مخطوطات، وثانيا حاجة الأجيال إلى التعرف على أدبها بإدراجها في برامج التعليم في كلّ أطواره، ككاتبة متميّزة في الكتابة الرّوائية، لثورتها على نمط الرّواية الإيديولوجية التي غرقت فيها الكِتابات في السّبعينات، وإبداعها جنسا جديدا يعتمد على السّرد الشّعريّ وهذيان اللّغة وكثافة الرّمز بكلّ أبعاده التاريخية والثقافية والاجتماعية، خاصة في روايتها "المغارة المتفجرة ". وثالثا مسؤولية نقاد الأدب في دراسة أدب يمينة مشاكرة وإبراز جوانب التجديد فيه، وعلاقته بالشخصية الدرامية ليمينة. وخامسا ترجمة أعمالها إلى العربية ليستفيد منها التلاميذ والطلبة. بهذا الشّكل يسهم جميع المشتغلين في المجال الثقافيّ على إحياء وحفظ جزء هام من الذاكرة الأدبية للجزائر. بوداود عميّر/ كاتب ومترجم المغارة المتفجرة أو الاهتمام المجسّد بين المقدمة والغلاف والترجمة لا تكمن أهمية "المغارة المتفجرة" في المنجز السردي في حد ذاته، باعتباره عملا سرديا لا يشبه الرواية، وإنما هو عبارة عن قصيدة طويلة، نثرية تُقرأ كرواية، كما جاء في نصّ المقدمة التي وقعها الكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين، فضلا عن ثنائه الشديد للعمل باعتباره يمثل شكلا منفردا في الكتابة السردية، استطاع أن يتجاوز القوالب المعتمدة آنذاك في العمل الروائي، وتقديره الكبير لمؤلفته يامينة مشاكرة، كمبدعة وكإنسانة، بل يتعدى ذلك إلى تمكّن هذا العمل من جمع اسمين بارزين في المشهد الأدبي والفني الجزائري آنذاك، في الاحتفاء بالمنجز، ويتعلق الأمر بالكاتب الروائي والمسرحي الراحل كاتب ياسين من خلال المقدمة التي خصّ بها على غير عادته هذا العمل بالتحديد، بحيث لم يكتف فقط بإشادته لمحتوى الكِتاب وطريقة كتابته، بل تعدّى ذلك إلى دعوته المُلحة في ضرورة الإطلاع عليه، والحث على قراءته من طرف الجميع حتى يظهر غيره وحتى يرفع آخرون صوتهم، إن المرأة -يقول كاتب ياسين في مقدمة الكِتاب- "التي تكتب في الوقت الحاضر في بلدنا، تساوي ثقلها بارودا". أن يخصّ كاتب ياسين منجزها بمقدمة راقية في الثناء على العمل وتشجيعه، ليس بالأمر الهيّن، وليس بالأمر المُتاح من كاتب جزائري كبير، كان يعيش أوج شهرته الأدبية، ليس في الجزائر فحسب بل والعالم أيضا، بفضل عمله الروائي الكبير "نجمة"، علاوة على أعماله المسرحية ذائعة الصيت. وأن يتولى الفنان الجزائري الكبير محمد إسياخم أحد مؤسسي الفن التشكيلي المعاصر في الجزائر، رسم غلاف عملها "المغارة المتفجرة" ليس كذلك بالأمر الهين، وهو المعروف بإلمامه الشديد بالأدب الجزائري والعالمي وتذوقه الشعر، وهو ما انعكس جليًا على اللوحات التي رسمها والتي حازت على شهرة عالمية. ثمة عنصر ثالث لم ينل للأسف أهميته، بل وتم تجاهله وحتى التعتيم عليه لسبب أو لآخر، يتعلق الأمر بالكاتبة التي تولت ترجمة العمل الذي صدر باللغة العربية سنة 1989، ويتعلق الأمر بالكاتبة اللبنانية عايدة أديب بامية، رغم أنها لم تكن غريبة على الوسط الأدبي الجزائري في سنوات الثمانينيات، كمدرسة وككاتبة ومترجمة، فهي صاحبة الكِتاب المرجعي المهم "تطور الأدب القصصي في الجزائر 1925 و1967" عن ديوان المطبوعات الجامعية، إلا أن التجاهل غير المبرر للمترجمة والكِتاب، وعدم إعادة طبعه، دفع إلى اعتقاد الكثير أن الكِتاب لم يترجم إلى العربية، من هنا انطلقت أصوات تطالب بترجمة عمل يامينة مشاكرة، أو بالأحرى إعادة ترجمته، دون الإشارة عن عدم دراية أو عن سبق إصرار إلى الكاتبة اللبنانية، ولعل موقف التجاهل ذاته، وأحيانا حتى التحامل، تكرّر بمناسبة وغير مناسبة مع عدد من المترجمين العرب لأعمال جزائرية، مثل عبد الصبور شاهين مترجم أعمال مالك بن نبي، أو الكاتب السوري سامي الدروبي مترجم ثلاثية محمد الديب، أو ملكة أبيض مترجمة "نجمة" لكاتب ياسين، حتى وإن اقتصر هذه المرة على الإحاطة بمساوئ الترجمة والضرورة المُلحة لإعادة الترجمة. بين يدي الآن رواية "المغارة المتفجرة"، من ترجمة عايدة أديب بامية، صدرت عن المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1989، من الحجم المتوسط، وتقع في 167 صفحة، تبدو ترجمة جيدة، حافظت على سِمات نص سردي يتقاطع في بلاغته مع الشعر، لا تحتاج في اعتقادي إلى إعادة ترجمة، تحتاج فقط إلى نفض الغبار عنها بعد نفاذ طبعتها، ومن ثمّ إعادة طبعها. محمد بن زيان/ ناقد وباحث شفافية التجلي ولغة تسحبها نحو مقام العزلة يمينة مشاكرة ليست مجرد كاتبة وإنما هي من الشخصيات التي تشكلت مساراتهم بما يتجاوز السرديات، تشكلا يقول بالصمت بلاغة البلاغة، عاشت العزلة والألم بتسامي ونبع من فيوضات حياتها، ذاكرة الثورة سكنتها وتخصصها كطبيبة نفسية كثفت من إستكناهها لما يتوارى خلف الحجب. في روايتها "المغارة المتفجرة" التي اقتبسها وأخرجها مسرحيا الفنان أحمد بن عيسى، كتبت يمينة ما يمثل توقيعها وهواجسها. الرواية التي كتب مقدمتها كاتب ياسين وقال في مقدمته: "كتابها ليس برواية، لكنه أفضل من ذلك، هو عبارة عن قصيدة طويلة، نثرية تقرأ كرواية". وفي مقدمته قال عبارته التي صارت تُستحضر بما تحمله من دلالات: "إن المرأة التي تكتب في الوقت الحاضر، في بلدنا، تساوي ثقلها بارودا". كانت مشاكرة متأثرة بكاتب ياسين، وكانت حسب ما ذكره الأديب أمين الزاوي بالسند إليها أنها كانت تقرأ نجمة مرة كل سنة، كاتب الذي كان مساره أيضا مركبا وملتبسا بالذي لا يدركه سوى من فقه طينة شخصيات ككاتب وكيمينة. وشهادة كاتب في يمينة من الشهادات التي لها اعتبارها، فكاتب كلامه كالبارود لا يطلق إلا بتقدير وتدقيق في التسديد. نصها متدفق بالإنسانية، مشحون بالحياة، بتحدي الألم والفناء، نصها معجون بالأرض ب "أريس" التي عنونت باسمها عملها الثاني. "في المغارة المتفجرة" تحضر الثورة في تفاصيل إنسانية محبوكة بحبكة تنحت المفردة الشعرية المكثفة، التي تمتد متاهيًا لتقول قوة تتشكل بخميرة الألم وشرخ الكسر، ولقد اختار كاتب ياسين عبارات دالة من روايتها في مقدمته، عبارات تختزل ما يسكن الكاتبة وما يحمله نصها. تكتب: "لقد آن الأوان لإزالة الغموض عن الإنسان والتحرر من أسطورة الموت. إن الإنسان مادة حية وعندما يموت يعود إلى الأرض ويصبح جزءا منها". في روايتها التي تعود للثورة لتكتب الحياة التي صاغتها الثورة فنقرأ مثلا على لسان ممرضة المجموعة: "بعثوني إلى الحدود التونسية، وعلى هذا الخط حيث يدق طبل الحرب بدون توقف، فتعلمت كيف أموت وكيف أحب الناس، وكيف لا أحب الناس وقد غمست أصابعي في دمائهم ولملمت أمعاءهم وتنشقت رائحتهم العفنة وتلقيت آخر نفس لهم. كانت وجوه الجرحى الجانبية النحيلة ترقص من شعلات الشموع الموضوعة على حافات المغارة، فتتشكل على حجمها وتصير ضخمة جدا". من مسكيانة كانت بداية حياة يمينة، التي ولدت في أواخر أربعينيات القرن الماضي أي في فترة برزخية توجها إعلان الثورة، ففتحت رؤيتها في خضم الثورة، وفي رحمها تشكلت وبخميرتها نضجت فتكثفت شفافيتها وصارت لغتها شعرية مكثفة، لغة تسحبها نحو مقام العزلة، عزلة تتوحد فيها متحدة بالناس، اتحاد المحبة. درست وصارت طبيبة نفسية، تداوي أعطاب النفس وتسمع آهات وتخبطات المرضى. يمينة التي كتبت واعتزلت ومرضت وقاومت الألم بعزة الشاوية وشموخ الفارسة وروعة الإنسان في تساميه عروجا نحو تحقق كانت تقوله في ما نسجته سرديا .