صَعدت جبال الهملايا مرّتين دون أن أحترق محمد قسط الزجل ذلكَ المزاج الذئبي، حين يُفصحُ الماء عن رغبته في الإثمِ والتوبة، وحينَ يتشابهُ على شجرة اللوز الحفيف والصمت، وحين يظنّ البحّار الحزين ضوء القمر لجّة، فيغرق في قارورة المغيب كصوفيّ شارد. ولجت عوالم الدهشة وأنا أقرأ ديوان الزجل "الثلجنار"، التجربة المشتركة بين الكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة، والشاعر المغربي عادل لطفي اللذين جَمعا في متنِ من خرير، ما لم تقلهُ الطبيعة قبل اليوم، وكأنهما وجدا سبيلا لاستنطاق الذات البشرية، عن طريق مزج عنصر الثلج بعنصر النار، في كيميائية عجائبية، جعلت غير المتوقع واللامعقول ألغامًا تستهدف القارئ وهو يخطو جذلاً بين السطور. استطاعت الكتابة الزجلية المغاربية بتفرّدها أن تنتقل إلى المستوى التالي، إلى سدرة المنتهى، فجاءت مفخخة بالذهول، متجاوزة الأنماط القديمة للزجل، فبعدما كانت نصوصه تُكتبُ على الشفاه، أصبحت منقوشة على البياض. متخلصا من ثيابه الرثّة القديمة، ومبتكرا مفهوماً جديدا في المخيال العربي، وبكلمة واضحة أصبح الزجل نُخبويًّا بامتياز. وهنا وجب التنبيه إلى أن بعض النصوص المطروحة في الساحة الزجلية المغاربية قد تجاوز مستوى النقد الموجود، ومنه وجب على منظومة النقد أن تتقدّم وتتطور، متماهية مع التجارب الطارئة. أتقن عبد الرزاق بوكبة دور الثلج، وعادل لطفي أتقن أيضا دور النار، لكن استطاعت التجربة أن تضمّ بين دفتيها انصهار الثلج في النار والنار في الثلج، هناك مصيدة نجت منها التجربة، وهي أن الكتاب المشترك في أغلب الأحيان - رأي شخصي- قد يظلم الكتّاب، فتكون المحصّلة نصوصا لا تصل كما ينبغي إلى القارئ بشكل صحيح. لكن هنا، لا يمكن له أن يكملَ متعة القراءة دون أن يمزج تلوين الثلج بكتاب النار. تلوين الثلج اختلفت التجربة الزجلية لبوكبة هنا عن تجربتة الزجلية 'يبلل ريق الما'، والصادرة عام 2013 عن دار فيسيرا (قدم لها الزجال المغربي الدكتور مراد القادري بكثير من الحفاوة) حيث استطاع أن يخلق مسارا آخر لنصّه الزجلي، لم يكرّر نفسه، رغم اعتماده على المفارقة الشعرية في كلا العملين، وأقول بكل تواضع إن نصوصهُ الأولى أكثر عمقا، بينما هي هنا أكثر نضجا وسلاسة، ولو أنني أعرف أن التجربتين كتبتا في فترتين متقاربتين زمنيّا، لكنهما مختلفتان عاطفيا، ،كما أن هناك مسارا تصاعديا في كلّ كتابة. كيف نلتقط هذه الفكرة؟ تلزمنا أصابع من ثلج: ثلجْ ثلجْ ثلجْ والراسْ فكرة بيضا تصلّي في قاع ال ك ا سْ. كتاب النار عرفت الشاعر عادل لطفي في فضاءات الفيس بوك، وخبرت إنسانيته العالية، من خلال نصوصه. هناك عمق تتلمّسه برؤوِس أصابعك، يقترف الحرف دون أن يخاف العواقب الوخيمة، على قارئ تعوّد منذ مدّة طويلة على جرعات خفيفة من الشعر، وعلى أنماط جاهزة، متكررة، كرّست ذائقة هابطة. لاحظت في شذراتهِ تكثيفا رائعا، يوغلُ في روحِ الكلمة، حتى تشفّ عن أسرارها (النَّار اللِّي كْلاَتْ الشّمْعَةّّ/ كَانتْ طَامْعَة فْ الْعسْلْ). يعجن اللغة، ويعيد تشكيلها مثلما يريد، وهنا تكمن روعة الكتابة الجديدة التي تجاوزت اللغة في حدّ ذاتها، خاصة إذا ضاقت الكلمة، وكأن الشاعر يخرج من جسده ثم يعود، وفي طوافه ذاك، يفتح نوافذ أخرى للكلام. في حضرة النار، قد تكون أنت كُنهها (شرْبْ نَاركْ/ يْفِيضْ السّْرّّ)، ويتلاشى الوقت، ويقتات من أعصابكَ وحش الحيرة (بْلهِيبْهَا جرْحَتْ النّارْ الظّلْمَه /سَالْ الضّو). ويخرج من رمادِكْ طائر العنقاء. كلّما غصتَ أكثر في التجربة، كلّما سكنتكَ الخواطر الفاحشة بجمالها (مَلِّي تّحرقتْ احْلاَمِي/ لِيلِي مَاتْ/ كفّنْتُه بالسّكَاتْ)، وليس لكَ بدّ من التقلّب في خيرات المعاني السامقة في صورها، والمتناقضة حدّ الانسجام. حيث يجعل من النار ونقيضها شيئا واحداً، فيقف على حدودٍ تكاد تذوب، ويضع القارئ أمام مقصلة، تدخل رأسه في متاهاتٍ لم يختبرها من قبل، متاهات تفتح حواسا جديدة، وتصورات أكثر نضجا. إن الزجل، من خلال تجاربه المغاربية الجديدة، ومنها تجربتا بوكبة ولطفي هو محاولة أخرى لقولِ الكون، وفهمِ الإنسان، رحلةُ ما ورائية لكشف مكنون اللغة، والرقص في حلقة صوفية لانهائيةٍ. وعليه وجب الاحتفاء بتجربة عبد الرزاق بوكبة وعادل لطفي، ووضعها في سياقها الإبداعي والجمالي، فقد لاحظت في السنة الماضية كيف مرّ المهتمون بالكتابات الأدبية في الجزائر على تجربة 'يبلل ريق الما' مرور الكرام (هل يجوز لنا أن نقول عن هذا النوع من المرور إنه مرور كرام؟) متجاوزين ما خلقتهُ من جماليات جديدة، يشهدها المتلقي الجزائري والمغاربي ،ولقد سُعدت لمدى الاهتمام الذي تشهده الكتابة الزجلية في المغرب الشقيق، وكيف ارتقت من مقام الشفاهي إلى مقام الكتابي، في سابقة أدبية رائدة.