أنتمي إلى جيل حُرم فيه الأطفال من الكلام ألقى الروائي الفرنسي باتريك موديانو في السابع من الشهر الجاري كلمة مطولة في حفل تسلم جائزة نوبل للآداب لهذه السنة، وتعد هذه الكلمة درسا في الكتابة وفي أخلاق الكاتب وتواضعه أيضا، النصر تترجم في هذا العدد جزء من خطبة موديانو . ترجمة: عمر شابي أريد ببساطة أن أعبر لكم عن غامر سعادتي بكوني بينكم، و كم أنا ممتن للشرف الذي قدمتموه لي بمنحي جائزة نوبل للآداب. إنها المرة الأولى التي أتحدث فيها أمام عدد كبير من الناس كهذا، و احس ببعض التردد، يمكن أن نعتقد أنه بالنسبة للكاتب يكون هذا الحديث طبيعيا. لكن الكاتب – او على الأقل الروائي- لديه غالبا علاقات صعبة مع الكلام. و إذا تذكرنا هذا التمييز المدرسي بين التعبير الكتابي و التعبير الشفوي، فإن الروائي أكثر موهبة في الكتابي أكثر منه في الشفوي، فلديه عادة البقاء صامت، و إذا كان يريد الدخول في جو معين عليه أن يغوص وسط العامة، يسمع الأحاديث دون أن يكون ملفتا للانتباه، و إذا تدخل في تلك الأحاديث فعادة لأجل أن يطرح بعض الأسئلة الخفية، لكي يفهم النساء و الرجال المحيطين به. إن له كلاما مترددا، بسبب عاداته في تصحيح و تعديل كتاباته، طبعا بعد تنقيحات متعددة، سيبدو أسلوبه صافيا، لكنه حين يتناول الكلمة، فليس لديه مطلقا المصدر لكي يصحح تردداته. الروائي أعمى في مواجهة كتبه و بعد فأنا أنتمي لجيل لا يدع الأطفال يتكلمون، إلا في مناسبات محددة، نادرة للغاية، و بعد أن يطلب الأطفال الإذن. لكن لا يتم الاستماع لهم كما يجب، و في غالب الحالات يتم قطع كلامهم. هذا ما يجعل أحاديث بعض منا صعبة، أحيانا مترددة، أحيانا مسرعة بقوة، كما لوانهم يخافون في كل لحظة أن تتم مقاطعتهم. و منه دون شك هذه الرغبة التي حملتني على للكتابة.مثلالكثيرين في مرحلة مباشرة بعد الطفولة. و نأمل أن يقرأنا البالغون، و يكونون بالتالي مجبرين على سماعنا دون أن يقاطعونك و سيعلمون مرة واحدة ماذا في قلبك. الإعلان عن هذه الجائزة بدا لي غير حقيقي و كان لدي رغبة ملحة في معرفة لماذا اخترتموني. في ذلك اليوم، لا أعتقد أنني أحست من قبله بطريقة قوية كم هو الروائي أعمى في مواجهة كتبه، و كم يعرف القراء أكثر منه عما يكتبه. الروائي لا يمكن مطلقا أن يكون قارئا لنفسه.سوى من أجل أن يصحح في مخطوطه الأخطاء التركيبية، و التكرار أو لكي يحذف فقرة زائدة. فليس له سوى تمثيل مشتبه و جزئي عن كتبه. كرسام منغمس في رسم جدارية في سقف، و الذي هو مستلق على رافعة، يعمل على التفاصيل، من مكان أكثر قربا، دون ان تكون له رؤية أشمل. غريبة هي مهنة الكتابة و متوحدة، تمر فيها بلحظات يأس حين تكتب الصفحات الأولى من رواية. لديك في كل يوم انطباع بأنك على الطريق الخطأ. و بعد هناك رغبة كبيرة في التراجع إلى الوراء، و أخذ طريق آخر. لا يجب أن تستسلم لهذا الإغراء لكن واصل على نفس الطريق. انه مماثل لكونك ممسكا بعجلة قيادة سيارة، في ليل شتوي و أنت تسير على الجليد، دون أدنى رؤية واضحة. ليس أمامك اختيار، لا يمكنك العودة إلى الوراء، عليك أن تواصل تقدمك و أنت تقول لنفسك أن الطريق سينتهي حتما بأن يكون أكثر استقرارا و أن الضباب سينقشع. حين تكون على وشك أن تنهي كتابا ينتابك إحساس أن هذا الأخير ينفصل عنك، وأنه يتنفس هواء الحرية، كالأطفال في القسم، عشية العطل الكبيرة، إنهم مرتاحون و صاخبون، لا يسمعون مطلقا معلميهم. سأغامر بالقول أنه حين تكتب الفقرات الأخيرة، يبادلك الكتاب بعض العدوانية في رغبته السريعة لكي يتحرر منك، إنه يكون قد نسيك وقتها. سيكون القراء بعدها هم الذين يكشفونه أمام نفسه.تحس في هذه اللحظة بفراغ كبير و ينتابك شعور بانه قد تم التخلي عنك. و كذلك شيء من عدم الرضا بسبب هذه الرابطة بينك و بين الكتاب تم قطعها بسرعة. عدم الرضا و الشعور بشيء غير مكتمل يدفعانك لكتابك الكتاب القادم لكي تعيد التوازن، دون أن تتمكن من ذلك مطلقا. و بمرور السنين تتعاقب الكتب و يتحدث القراء عن أعمال، لكنك تشعر أن ذلك لم يكن سوى هروب طويل إلى الأمام. نعم القارء يعرف أكثر عن الكتاب من المؤلف نفسه، تحدث بين الرواية و قارئها ظاهرة شبيهة بتحميض الصور، مثلما كانت تتم قبل عصر الرقمنة. في لحظة الانزواء داخل الغرفة السوداء يصير الصورة مرئية أقل فأقل، و بالتقدم في قراءة الرواية يجري نفس المسار الكيميائي. لكن لكي يتحقق مثل هذا الاتفاق بين الكاتب و قارئه لا ينبغي مطلقا على الروائي ان يجبر قارئه – على النحو الذي نقول به أن مغنيا يجبر صوته- لكن يجره دون ان يشعر و يترك له هامشا كافيا لكي يدخله الكتاب شيئا فشيئا، و هذا بفن يشبه وخز الإبر أين يكفي أن تغرز إبرة في مكان محدد بدقة متناهية لكي ينتشر السائل في كامل الجهاز العصبي. ينتابني عدم الرضا كلما أنهيت كتابا فأبحث عن التوازن المستحيل في الكتاب الذي يليه هذه العلاقة الحميمية و التكاملية بين الروائي و قارئه أعتقد أننا نجد مساويا لها في المجال الموسيقي، اعتقدت عل الدوام أن الكتابة قريبة من الموسيقى لكنها أقل نقاء منها بكثير، و حسدت باستمرار الموسيقيين الذين بدوا لي يمارسون فنا أرقى من الرواية- و الشعراء الذين هم أقرب إلى الموسيقيين من الكتاب. بدأت بكتابة أشعار في طفولتي، و من دون شك بفضل ذلك تمكنت من فهم الفكرة التي قراتها في مكان ما « من خلال شعراء رديئين نصنع الكتاب» و بعد فيما يتعلق بالموسيقى، يتعلق الأمر غالبا بالنسبة للروائي باستدراج كل الأشخاص، المناظر، الشوارع التي تمكن من مشاهدتها في مقطع موسيقي، أبن نجد نفس تقاطيع الألحان بين كتاب و آخر، لكنه مقطع موسيقي يبدو له غير كامل. يوجد لدى الروائيين أسف على عدم القدرة ليكونوا موسيقيين صرفين و الأسف على عدم تأليف «الليالي» لشوبان. نقص الوضوح في الرؤية و الابتعاد النقدي للروائي في ما يتعلق بكامل مؤلفاته يرتبط أيضا بظاهرة لاحظتها في حالتي و في حالات أخرى كثيرة. كل كتاب جديد في لحظة كتابته، يمحي السابق لدرجة أنني شعرت بأنني نسيته. أعتقدت أنني كتبهم الواحد تلو الآخر بطريقة غير متواصلة، بسبب النسيانات المتواترة لكن غالبا نفس الوجوه، نفس الأسماء، نفس الأماكن، نفس الجمل تعود من هذا للآخر، كالتطريزات في زربية نكون نسجناها و نحن نصف نائمين. نصف النوم، أو بالأحرى حلم اليقظة. الروائي هو غالبا ما يمشي نائما، بما أنه مسكون بما سيكتبه، و يمكننا أن نخشى أن تدهسه سيارة عندما يجتاز الطريق، لكننا ننسى هذه الدقة المتناهية للماشين نياما الذين يسيرون على السطوح لكنهم لا يسقطون أبدا. في التصريح الذي أعقب الإعلان عن جائزة نوبل، احتفظت بالجملة التالية التي كانت إشارة إلى الحرب العالمية الأخيرة :» لقد كشف عن عالم الاحتلال». أنا مثل كل اللواتي والذين ولدوا سنة 1945، إبن الحرب، و بالتحديد، بما أنني ولدت في باريس، طفل كانت ولادته بفضل باريسالمحتلة. الأشخاص الذين عاشوا في باريس تلك يريدون بسرعة نسيان الأمر، أو لا يريدون سوى تذكر تفاصيل يومية، و من الذين يريدون الإيحاء أنه بعد كل شيء الحياة اليومية لم تكن مختلفة بشكل كبير عن حياتهم اليومية في أوقات عادية. يراودهم حلم مزعج و كذلك إحساس غير واضح بالذنب بأن يكونوا بشكل ما من الباقين على قيد الحياة. و لما يسألهم أبناؤهم فيما بعد عن تلك المرحلة و عن باريس تلك، أجوبتهم كانت متهربة، أو أنهم يتلفعون بالصمت كما لو أنهم يريدون محو تلك السنوات المظلمة من ذاكرتهم، و يخفون عنا شيئا ما. لكن أمام صمت والدينا، استنتجنا كل شيء، كما لو أننا عايشناه. مدينة غريبة هي باريس تحت الاحتلال، في الظاهر الحياة مستمرة،»كما من قبل»: المسارح، قاعات السينما، قاعات عروض الموسيقى، المطاعم مفتوحة. الناس يستمعون للأغاني في الراديو. حتى ان هناك في المسارح أناس كثيرون عما كانوا عليه قبل الحرب، كما لو أن تلك الأماكن كانت ملاجىء، يتجمع داخلها الناس، و يحتمون ببعضهم البعض للشعور بالطمانينة. لكن هذه التفاصيل الغريبة تشير إلى أن باريس لم تكن نفسها كما كانت من قبل. بسبب غياب السيارات كانت مدينة صامتة- صمت تسمع معه حفيف أوراق الشجر، و صوت حوافر الأحصنة، و صخب أقدام المجموعات من الناس على الطرقات، و ضجيج أصواتهم غير المفهومة. في صمت الشوارع و الظلام الذي يخيم في الشتاء في حوالي الساعة الخامسة مساء، و الذي كان خلاله أبسط ضوء خافت على النافذة ممنوعا، كانت المدينة تبدو غائبة عن نفسها- المدينة «التي لا نظر لها»، كما كان يقول المحتلون النازيون. في الصفحات الأولى من الرواية تشعر أنك على الطريق الخطأ البالغون و الأطفال يمكنهم أن يتلاشوا من حين لآخر، دون أن يتركوا أي أثر، و حتى فيما بين الأصدقاء يتم تبادل الحديث بأنصاف الكلمات، و لم تكن الأحاديث صريحة تماما، بفعل الإحساس بالتهديد يحوم على المكان. في باريس الأحلام السيئة هذه، كان خطر الوشاية و الاعتقال قائما عند الخروج من نفق الميترو، و لقاءات بالمصادفة تتم بين الناس، لم يكن ممكنا أبدا التقاؤهم في أوقات السلم، قصص حب هشة ولدت في ظلال حظر التجول، دون أن نكون متأكدين بأننا سنلتقي في الأيام القادمة، و بفضل هذه اللقاءات التي غالبا ما لا يكون لها مستقبل، و أحيانا بفعل اللقاءات السيئة ولد أطفال فيما بعد. هذا هو لماذا كانت باريسالمحتلة بالنسبة لي دائما الليلية الأولى. دونها لم أكن قد ولدت بالمرة. و ظلت باريس تلك تطارد مخيلتي، و تسبح كتبي أحيانا في أضوائها المحجبة. هذا أيضا دليل آخر على أن الكاتب مطبوع بشكل لا ينمحي بتاريخ ميلاده، و بزمنه، حتى و لو كان لم يشارك بطريق مباشرة في الفعل السياسي، حتى و لو أعطى الانطباع بكونه منعزلا، متقوقعا فيما يمكن أن نسميه «برجه العاجي». و إذا كتب أشعارا، فهي على صورة الوقت الذي عاش فيه، و لم يكن ممكنا كتابتها في زمن آخر. و هكذا فأشعار ييتس، هذا الكاتب الإيرلندي العظيم، الذي أثرت في كتاباته على الدوام بعمق « البجعات المتوحشة في كول. في حديقة يراقب ييتس بجعات تتزحلق على الماء. «الخريف التاسع عشر نزل علي، منذ أن عددتهم للمرة الأولى، رأيتهم قبل أن أتمم العد، إرتفعن فجأة، و ابتهجن دائرات في الجو في حلقات منكسرة، على أجنحتهن المتذبذبة، لكنهن الآن يتزحلقن على المياه الهادئة، جليلات و مليئات بالجمال. في أي كتلة أعواد سيبنين عشهن، على ضفة أي بحيرة، و أي مصب. هل تعجب بهن أعين أخرى حينما أستيقظ و أجد يوما أنهن طرن؟» البجع يظهر غالبا في شعر القرن التاسع عشر- عند بودلير أو عند مالارمي، لكن قصيدة ييتس هاته لم يكن ممكنا كتابتها في القرن التاسع عشر بسبب وقع نظمها الخاص و غضبها الذي ينتمي للقرن العشرين، و حتى للسنة نفسها التي كتبت فيها. يحدث أيضا أن كاتبا في القرن الحادي العشرين يحس في بعض الأوقات، بأنه سجين زمنه و أن قراءة كبار الروائيين من القرن التاسع عشر- بالزاك، ديكنز، تولستوي، دوستيوفسكي- تلهمه بعض الحنين. في تلك الفترة كان الوقت يمضي بطريقة أكثر بطئا عما هو الآن و هذا البطء يترابط مع عمل الروائي، لأنه يسمح له أكثر بتركيز طاقته و انتباهه. منذئذ تسارع الوقت و صار يتقدم بارتجاجات، مما يوضح الفرق بين التلال الجبلية الرومانسية في الماضي، و هندسة الكاتدرائيات و الأعمال غير المترابطة و المجتزأة في الوقت الراهن. في هذا السياق أنتمي إلى جيل وسطي و أكون شغوفا و فضوليا لمعرفة كيف تعبر الأجيال اللاحقة التي ولدت مع الأنترنت، الهاتف المحمول، البريد الإلكتروني و التغريدات على تويتر بطريقة أدبية عن هذا العالم الذي يتواصل فيه كل واحد بطريقة مستمرة، و الذي توغلت فيه الشبكات الاجتماعية في الجزء الحميم و السري الذي كان إلى وقت قريب ملكيتنا الخاصة.- السر الذي يعطي للأشخاص عمقا، و يمكن أن يكون موضوعا روائيا كبيرا. لكنني أريد أن أبقى متفائلا فيما يخص مستقبل الأدب و أنا مقتنع أن كتاب المستقبل يمكنهم أن يضمنوا الاستمرارية كما فعل كل جيل منذ هوميروس...