غير بعيد عن وادي مازفران حيث التقاء حدود ولايات الجزائر العاصمة وتيبازة والبليدة، وعلى بعد كيلومترات قليلة من بلدة الدواودة، وأنت قادم من الجزائر العاصمة، عليك أن تمر بمنعرج كبير كان في وقت سابق منطقة نفوذ للجماعات المسلحة، وهو المسمى ''مقطع خيرة''، وأصبح سوقا فوضية لتجارة اللحوم بمختلف أنواعها في الهواء الطلق وبعيدا عن أي رقابة صحية· ومع الحصار الحالي المضروب على الباعة الفوضويين، فإن امبراطورية ''مقطع خيرة'' لم تسقط رغم ارتفاع الأسعار بها· إلى وقت قريب كان ملتقى الطرق الذي يؤدي إلى دواودة من جهة، والبليدة من جهة أخرى، بمثابة سوق كبيرة للحوم البيضاء المفتوحة في الهواء الطلق، لكن تلك السوق اختفت بشكل مفاجئ بعد إقرار إقامة حاجز أمني دائم هناك، إضافة إلى حواجز أخرى في مناطق متقاربة، يبدو أن الغاية منها هي منع تجارة اللحوم الفوضوية تلك· لكن المنطقة التي اختلطت فيها خضرة الطبيعة ببياض ريش ديك الهند، مازال أهلها يقتاتون من تلك التجارة التي وسعوها إلى مختلف أنواع اللحوم، حيث تجد الديك الهندي إلى جانب لحم الخروف على الرصيف· ولا يحتاج هؤلاء الجزارون المتنقلون إلى مذابح أو تصريح بالصلاحية الصحية، فكل شيء يتم هناك في الهواء الطلق، وعلى المستهلك أن يفترض حسن النية إذا أراد أن يشتري من هناك، ولا يضمن في حالة ما إذا اكتشف أن البضاعة مغشوشة أن يعيدها إلى بائعها، فمن المحتمل جدا ألا يجده في المرة السابقة في نفس المكان الذي تركه فيه· ارتفاع أسعار ''الداند'' في عقر داره على بعد عشرات الأمتار من ''الطحطاحة'' التي كانت مركزا لباعة اللحوم بمقطع خيرة، حيث يقام حاليا حاجز أمني دائم، كان بعض باعة اللحوم يعرضون بضاعتهم على حافة الطريق، جثة خروف مذبوح من جهة، وبعض جثث ديك الهندي من جهة أخرى، وشاب في العشرينيات من العمر يقف إلى جانب كمية اللحم تلك ويحاول إيجاد بائع لها· فبخصوص لحم الضأن، فإن سعر الكيلوغرام الواحد هو 65 ألف سنتيم· أما لحم ديك الهند، فسعر الفخد هو 22 ألف سنتيم للكيلوغرام، والصدر مع الرقبة ب 27 ألف سنتيم للكيلوغرام· ولم نفاجأ بارتفاع السعر الذي لا يختلف عن نظيره في أسواق العاصمة رغم المخاطر الصحية المحتملة، وبعض الديوك المعروضة وسط غبار الطرقات يبدو عليه زرقة قد تكون نتيجة مرض، لكن البائع يهوّن منها ويرجعها إلى حالة ''احتكاك'' اللحوم ببعضها، ويؤكد ذلك البائع الذي يتكلم من موقع قوة ومطمئن على تجارته، أن الأسعار بالفعل كانت متدنية في الأيام الماضية، لكنها الآن في طريقها إلى الصعود، لكن ما لم يقله هذا البائع وقاله آخر هو أن نقص المنافسة جعل الأسعار ترتفع بهذا الشكل وترتفع أكثر عند ''السوق البلدي لبيع الديك ببلدية الدواودة'' على مقربة من هناك، وهو السوق الذي تم فتحه ليكون بديلا للتجارة الفوضوية التي انتشرت بشكل كبير، فداخل السوق المخصص للحم الديك الهندي، فإن سعر الفخد يرتفع إلى 23 ألف سنتيم، في حين أن الصدر يرتفع إلى 33 ألف للكيلوغرام الواحد، وهو السعر المرتفع حتى عما هو عليه في الأسواق الشعبية لضواحي الجزائر العاصمة· وعندما نتساءل عن هذا الارتفاع، فإن البائع الشاب يقول بلغة قاطعة، وهو يحمل السكين استعدادا لأي صفقة محتملة: ''هذه سلعة خشينة ومليحة''، إضافة إلى أنها قانونية ومراقبة طبيا على عكس ما هو عليه خارج السوق· وفي هذا الموسم، وفي تلك المنطقة الفلاحية، لا يقتصر النشاط التجاري في مقطع خيرة على اللحوم فقط بل يتعداه إلى البيض وأنواع الأسماك الصغيرة الصالحة للتربية في الأحواض الماضية، والتي يباع في أكياس صغيرة مملوءة بالماء، ويبدو أن باعتها جاؤوا بها من وادي مازفران القريب من هناك، إلى جانب تجارة البطاطا في الشاحنات، لكن مقطع خيرة الذي اشتهر أهله منذ زمن طويل بتربية الديك الهندي يبقى لحم هذا الطائر هو المسيطر· وبالمقرب من الدواودة، وبجانب مطعم وبعض المتاجر الأخرى، يعرض أحد الجزارين سلعته المتمثلة في لحوم الديك الرومي المذبوحة وحتى التي مازالت على قيد الحياة، ووسط رائحة لا تطاق، والمتجر يشبه مفرخة للطيور بل هو كذلك، يؤكد صاحب المحل أن سعر الكيلوغرام الواحد من الديوك الحية يقدر ب 200 دينار جزائري· حكاية الرعب من خيرة إلى عنتر زوابري رغم تغير الأوضاع الأمنية نحو التحسن، إلا أن ذاكرة سكان المنطقة مازالت تحفظ ما وقع بها في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان ''مقطع خيرة'' يعرف ب ''منطقة الموت''· وحسب بعض الشهود، فإن الرؤوس المفصولة عن الأجساد كانت تصنع ديكور المكان، والحواجز المزيفة كانت تنصب في كل حين وراح ضحيتها الكثير من المواطنين وأفراد الأمن، وكانت معقلا حقيقيا لأفراد الجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا)، حيث شكلت منطقة نفوذ لتلك الجماعة ونقطة عبورها إلى الحطاطبة ضمن ما كان يسمى حينها ''مثلث الموت''، ويذكر البعض أنها كانت منطقة نفوذ لزعيم الجيا عنتر زوابري الذي بمقتله سنة 2001 تحوّلت تلك الجماعة المسلحة إلى جزء من الماضي· ولا يبدو أن ذاكرة المكان التي ارتبطت حاليا بدماء الديوك والكباش وقبلها بدماء البشر مقتصرة على التاريخ القريب للجزائر، والذاكرة الشعبية تربطه بالرعب منذ القدم، وتسميته ب ''مقطع خيرة'' دليل على ذلك· وتقول الحكاية الشعبية أن ذلك المنعرج الخطير كان المنفذ الوحيد لأهل متيجة إلى البحر، وكان القادمون من البليدة وضواحيها عند مرورهم يفاجأون بقاطع طريق ملثم يشهر في وجوههم سيفه ويستولي على كل متاعهم والكل يهرب بجلده، خوفا من بطش ذلك السفاح الذي كان يركب جواده وزرع الرعب في قلوب كل العابرين، وعندما زاد خطره ومس الجميع، اجتمع أهل البلدية في منطقة سيدي الكبير من أجل إيجاد حل لقاطع الطريق ذاك، والبعض اقترح هجمة منسقة يشارك فيها أشجع الفرسان، لكن ابن مداح المدينة اقترح عليهم أن يذهب منفردا ووعدهم بأنه سيعود ورأس ذلك الشبح في يده· وبعد إلحاح منه وافقوا على خطته وأرسلوه وبقوا في انتظار عودته، وعندما ذهب ابن المداح بفرسه بدأ يقلد أبيه المداح في الكلام وهو ينتظر الشبح، وعندما وصل إلى المكان المسمى حاليا ''مقطع خيرة'' وخرج له الشبح قال له وهو خائف إنه جاء ليسمعه أجمل المدائح، وعندما سمع منه كلاما جميلا كشف الشبح عن وجهه وإذا به امرأة في غاية الجمال اسمها ''خيرة''، وعندها بدأ يسمع حكايتها وأخبرته أنها فتاة مات والدها ولما لم تجد معيلا له احتفت قطع الطريق وتخويف الناس من أجل الاستيلاء على متاعهم، وعندها اقترح عليها الزواج وقبلت العرض وأخذها معه إلى مدينة البليدة، وعندما خاف أهله عليه وانتظاره طال حتى اعتقدوا أن الشبح قضى عليه جاءهم الفتى مع زوجته الجديدة، فقص عليهم الحكاية ومن ساعتها أصبح المكان يسمى ''مقطع خيرة''، وأصبح أهل متيجة يمرون عليه في كل حين بكل أمان وأصبحت خيرة التي زرعت الرعب في قلوبهم واحدة منهم· استمرار رغم الحصار في رحلة العودة عبر نفس الطريق المؤدي من مقطع خيرة إلى مركز بلدة الدواودة، بدا أن تجار لحم الضأن والديك الرومي الذين كانوا في نفس المكان منذ وقت قصير قد اختفوا بشكل مفاجئ ليبقى ''السوق البلدي'' وحده يستقطب الزبائن والفضوليين، ولا يبدو أن سبب اختفاء أولئك التجار يعود إلى أنهم باعوا كل بضاعتهم، بل يبدو أنهم هربوا ببضاعتهم إلى بيوتهم والمراقبون في هذه الأيام لا يملّون من تعقبهم ومنّهم بشتى الوسائل من الاستمرار في تلك التجارة بتلك الطريقة، وكان نفس التجار الذي يدعّون أن سلعتهم جديدة وطازجة يؤكدون أن ما تبقى من ذلك اللحم يتم استهلاكه بشكل شخصي ولا يباع في اليوم الوالي، إلا السلعة الطازجة، وذلك المكان الذي اشتهر بتلك التجارة التي جاءت نتيجة شهرة أهله بتربية الديوك الهندية، لا يبدو أن أهله الذين في معظمهم لا يعرفون مهنة أخرى، قد يتخلون عن تلك التجارة رغم أنها ممنوعة قانونا، ورغم الحصار الذي يتعرّضون له في الوقت الحالي الذي يشتد فيه الخناق على التجار الفوضويين في كل مكان·