حوالي 1900 كلم قطعتها ذهابا وإيابا إلى المنيعة·· كان إغراء الروبورتاج يداعبني منذ فترة طويلة·· الروبورتاج يفتح عينيك على تلك التفاصيل التي تهرب منا، وعلى كل تلك الحياة الخفية التي لا نراها عندما يأسرني اليومي وتسيطر على عقولنا وعلى مخيالنا سلطة العادي والبداهة··· كنت وأنا أتأمل الوجوه، الطرقات، الجبال الرملية لحظة الحياة التي يجب أن نتصالح معها من أجل استعادتها واستعادة نبضها الحي الذي يعيد تشكيل وجداننا ونظرتنا وطريقة تعاملنا مع الناس والأشياء·· كانت الجلفة، الأغواط، غرداية محطاتي إلى المنيعة··· وكانت المنيعة لحظة اكتشاف جديد لي لوقع الحياة بعيدا عن العاصمة·· تعرّفت هناك على أناس جدد، استمعت إلى مواطنين بسطاء يصنعون الحياة بصمت وعناد·· وبقدر ما فرحت باكتشافي لأناس يشكلون كل لحظة دلالات المعنى، فإنني حزنت وأنا أقضي وقتا وحيدا في تلك القلعة المهملة، المسماة بالقصر·· قلعة بنيت في القرن التاسع والعاشر ميلادي، عاشت داخلها قبيلة بربرية من الزناتة، ثم لجأ إليها عرب بني هلال·· عمرانها ظل شاهدا على جزئيات· الحياة في تلك الفترة القديمة·· وتساءلت غاضبا، لماذا هذا الإهمال··؟! لماذا لم يهتم بهذا التراث أحدا من المسؤولين المحليين أو المركزيين؟! كيف نحوّل هذا الكنز إلى مزبلة مرعبة؟! لم أجد من يجيب على تساؤلاتي··· غمرتني كآبة وحسرة شديدتين·· رحت لوقت طويل أتأمل المنيعة من أعلى القلعة، ورحت أستعيد تلك اللحظات الضاربة في عمق الماضي وأنا أقوم بلملمة شتات الذاكرة العميقة، من على وجه الحجر، وعلى ما تبقى من أثر··· -2- في طريق عودتي إلى الجزائر العاصمة، هاتفني صديق وأعلمني بالنبأ الحزين·· لقد توفي المؤرخ والمثقف الكبير والمستشار برئاسة الجمهورية عبد القادر جغلول إثر مرض عضال··· استولى عليّ الصمت والأسى·· قلت للصديق، كيف!! لقد التقيت به منذ مدة قصيرة·· وتحدثنا عن الشريف الزهار وعن ابن رحال وعن عدد من المثقفين الجزائريين الذين نحن اليوم بحاجة إلى التعريف بآثارهم وأفكارهم·· ولقد سبق لعبد القادر جغلول أن كتب عن هؤلاء المثقفين في سنوات الثمانينيات في أسبوعية ''الجزائر الأحداث'' وجمع هذه الكتابات في كتاب جميل، أسماه، عناصر في سبيل ثقافة وطنية، تناول من خلال هذه النصوص تشكل الانتجلنسيا الجزائرية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى غاية القرن العشرين··· وكان عبد القادر جغلول كلما ألتقي به يحيي مبادرة ''الجزائر نيوز'' من حيث اهتمامها بالثقافة والفكر··· وقال لي، في آخر لقاء جمعني به·· ''إنني عندما أغادر الرئاسة، يسرني أن أعود إلى الكتابة على أعمدة ''الجزائر نيوز''··· وهاهو الآن يرحل بشكل مفاجئ دون أن يودع من أحبوه واحترموا فكره، وإبداعاته في البحث الاجتماعي والفلسفي··· -3- وصلت إلى العاصمة متعبا، وإذا بخبر آخر، يزيدني حزنا، وهو فقدان زميلتنا باية قاسمي، التي ماتت بعيدة عنا أيضا إثر مرض حافظت على سريته وتحمّلته بشجاعة وكرم·· وشاء القدر، أنا الذي لم أكن متفقا معها في كثير من الأوقات، أن تهاتفني وتقترح عليّ، كتابة مقالة أسبوعية في ''ألجيري نيوز ويك''، وبالفعل ساهمت معنا لمدة تجاوزت أشهر·· وكانت كلمتها الأخيرة لي، أنها تريد الآن أن تنظر إلى القضايا التي دافعت عنها، عن بُعد، وبرؤية بعيدة عن التشنج·· وداعا، باية···