ابن الجزار، بن مهدية، كبيش، ابن باديس ولفقير والإصلاح هي أسماء لأهم العنابر الموجودة بمستشفى "فرانتز فانون" بالبليدة، والتي أصبحت اليوم معالم تاريخية للبأس والقدر المحتوم. وبداخل تلك العنابر معالم أخرى؛ عمي بوعلام، فضيل، ربيع وعمي عبد القادر، وغيرهم هي أسماء أيضا، لكن قدماء المقيمين بمصلحة الأمراض العقلية، وكلا النوعين من المعالم لهما ماض وحاضر.. ومستقبل مشترك. مستشفى ؛فرانتز فانون" أصبح اليوم مأوى لحالات اجتماعية تستدعي رعاية الأهل، غير أنها وجدت نفسها بين جدران العنابر تصارع الوحدة والإهمال والتهميش، قد تختلف وضعيتهم لكن المكان واحد والسبب واحد فمنهم من تخلت عنه العائلة ومنهم هارب من ثأر بعد ارتكابه جريمة قتل مثلا ولم يجد مكانا يأوي إليه. مكاني ليس هنا وإنما في بيتي وسط أولادي.. أو في دار العجزة أثناء تجوالنا بالعديد من العنابر والتحدث إلى المرضى، تزامن ذلك مع موعد الغداء، فكانت البداية بعنبر كبيش الذي يضم 71 مريضا، إلا أن طاقة استيعابه لا تتعدى 60 مريضا فقط، يضم صالتان، واحدة بها حوالي 30 مريضا والباقون في الصالة الأخرى، وبه أيضا ساحة تطل على المستشفى، يتناول بها المرضى طعامهم على الأرض. دخولنا لتلك الساحة جعلنا نتسمر في مكاننا لوقت طويل نبحث عن إجابة لأسئلة كثيرة "ما ذنب هؤلاء؟.. من السبب؟ هل هو القدر أم هناك أشخاص وراء تلك الحياة القاسية؟". أجساد لأشخاص أرهقها الإهمال، عليهم ثياب كلها بالية وآخرون عراة، ووجوه مرسوم عليها خطوط الحرمان، الجميع يحتاج إلى لمسة حنان من أي زائر كان. معظم من رآنا قدم إلينا مسرعا للترحيب بنا في عالمهم، فبعد أن تماسكنا وتجاوزنا مرحلة الشرود جلسنا رفقة عمي عبد القادر البالغ من العمر 68 سنة، قال إنه بالمستشفى منذ سنة 1967.. لم يكن نزيلا دائما، بل كان يدخل لفترة محددة ويخرج لعمله وبيته، لكن في الفترة الأخيرة صار عنبر كبيش قدره المحتوم؛ فاليوم هو من النزلاء الدائمين بعد أن كان يعمل رئيس كتيبة بالدرك الوطني بالمدية، هو متزوج ولديه 5 أولاد، حج مع زوجته في سنة 1990، حديثه عن عمله وأولاده وأملاكه جعلنا نستغرب قليلا، حتى أننا لم نصدقه إلا بعد تدخل أحد الممرضين هناك مؤكدا ما يقوله. كان عمي عبد القادر يحدثنا عن أولاده وهو يتباهى بهم قال "جميعهم درسوا وهم اليوم في مناصب لا بأس بها"، ليسكت قليلا ثم يواصل الحديث "ابنتي الكبرى كل صبع بصنعة، أما الصغرى فسوف تتزوج في أوت القادم".. راتبي الشهري أعطيه لبناتي، أما الأولاد فهم يعملون وتركت لهم فيلا بالمدية يسكنون فيها". سألناه عن زوجته التي لم يحدثنا عنها فقال "عندما كنت بخير كانت زوجتي، لكنها اليوم ترفض أن تتكفل بي ورمتني بالمستشفى، أما أولادي فتبعوا (راي يماهم)".. كانت لعمي عبد القادر آثار ضرب على رأسه ظاهرةا رغم قدمها وبوضوح، ولما سألناه عنها قال إنه تعرض لاعتداء من أحد المرضى بمصلحة لفقير، الأمر الذي حز في نفس محدثنا ورأى أن مكانه ليس مستشفى الأمراض العقلية وهو في هذه السن، إنما مكانه في بيته وسط أولاده.. أو في دار العجزة. سبب تواجدهم بالمصلحة الهروب من الثأر أو مشكل السكن محمد البالغ من العمر 52 سنة جلوسنا معه أكد لنا أن المرضى المتواجدين هناك ليسوا بالضرورة مرضى عقليا؛ فمنهم من أخذ منا القلم وقام بتصحيح اسمه الذي كتبناه على الورقة التي كنا ندون فيها بعض المعلومات. سبب تواجد فضيل بالمستشفى هو قرار من المحكمة، لأنه كان بالسجن بعد جريمة قتل زوجة أبيه، ونظرا لوضعيته العقلية التي قيّمها الخبير وضع بمصلحة الإصلاح، وهي مصلحة خاصة بالمرضى عقليا الذين صدرت في حقهم أحكام قضائية. فضيل كشف لنا وضعيته الصحية بشكل جيد. حيث قال "ارتكبت الجريمة دون وعي ولا قصد مني.. كنت في حالة نفسية صعبة لكن اليوم تجاوزت تلك المرحلة وشفيت كليا وبقائي بالمصلحة ليس لأنني مريض، بل لأني لم أجد مكانا أذهب إليه. بيت أبي المتواجد بالقصبة هدم وإخوتي من أبي لم يقبلوني ورفضوا استقبالي...". ولم يكن الوحيد هناك الذي لديه مشكل سكن، بل الكثير منهم؛ الربيع وفضيل وغيرهم رددوا نفس الجملة "الحياة هنا محتمة علينا"!