يأتي اللهوعلى شاطئ الصيف تباعا وعلى أماسيه وأمسياته تباعايات، الفنون والأغنيات، الطرب والأندلسيات، حكايات الفنانين المجنونة، صخب الغالات وهدير الشعب في الصالات، ولم يكن الاستثناء يوما في هذا التلازم العضوي بينهما، الصيف وأمسياته، الأمسيات وسلالها المتنوعة من فواكه الأغاني وأخبار المطربين وحركة تنقلاتهم المكوكية من مهرجان إلى آخر ومن جمهور إلى آخر ومن صحافة إلى أخرى ومن مكاتيب وخطابات وحجابات إلى دواوين في الحكي المسترسل طربا مرة ومرات سير مطربين قدامى أومحدثين يتناولهم السهارى بالنميمة أو السهر أوالحمى أواللطائف والنوادر والفذلكات··· لازلت أقرأ للكاتب والباحث الجزائري الفصول تلوالفصول عن الغناء الأندلسي بمنبته اليهودي، أن الجزائري فوزي سعد الله لم يفرغ بعد من جهوده في جمع الشوارد الصغيرة والكبيرةالمتعلقة بالمنظومة الفنية الأندلسية تلك التي ساد من خلالها الإسم اليهودي منتزعا هيمنة لا توصف ضمن المقام الطربي الذي يحلو للبعض دائما توصيفه بالأصيل، المعنوي، القيمي، ولست أحتاج كي أتملى حروف وكلمات كتابه ''يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب'' ففوزي جمع وأوعى في صبر أيوب وحكمة لقمان عليهما السلام حتى يعثر على خيوط كثيرة، رهيفة، بيضاء، شفافة، استخرجها من تحت الجسد اليهودي المليء بالبثور والدمامل والأعطاب·· وليست تهم أية قراءة من تحت أعطاف التاريخ والجغرافيا كما هي قراءة المصادر والتنكب للبحوث واستفراغ الطاقات لقول حقيقة واحدة استبدادية، مطلقة، مأسورة القواعد والمنطلقات، ليست هذه منطلقات فوزي وحاصل اجتهاداته، فهودائما مذ معرفتي به -كتابة ولقاء- على قليل من الولاء المطلق والادعاءات الفارغة والإقامة في المحيط الآمن· لقد ظل يقارب مواضيعه عن الحياة العاصمية، عن يهودييها وموسيقاهم، عن حضورهم في التشكيل الاجتماعي، عن اندماجهم واندماج دمهم وامتزاجه بالجزائري الجزائرياني، وعن مجالس اللهوومجالسيه، ظل يقارب تحت معاني العبور، الإشارة، التلميح، الإظهار والتوكيد، الحقيقة التاريخية المشتركة ولم تأت بحوثه مندغمة مع أي تيار أوسياق أومدرسة أومذهب، بل إن فوزي أسعفته أموره أن يكون على خفة كاتب ممارس ليس عليه أثقال المؤرخ، الصحافي الجاد وليس عليه واجبات الضمير المؤقتة، والحرية، فالكاتب لا يقطن هنا، إن كتابة فوزي سعد الله هي أبعد ما يكون من الملل الذي يرافق دوما دروس التاريخ ومدرسيه، جاءت مجالسه إيحاء وترميزا على الفنون ومقاماتها الموسيقية، روادها وبعض أنشوداتهم الطافحة بالأنس والسهر وحب الخلان، وابتعد عن الجفاء والمصادرة والأحكام والحيل··· إن حيلة واحدة هي التي أسرف فيها الكاتب، الصحافي، النشط وهي كشاف الأسماء من ذوي الرتب وأقلها الذين يستحيل عدهم ممن سجلوا الحضور ومثلوه وتمثلوه داخل الحقل الموسيقي الهائل بتنويعاته، بمكنوناته، برموزه، كشاف عامر بالدلالات، يشتغل عليه فوزي بجد، يتابعه ويتابع ملفاته بلا نقيصة في المتن أواستنقاص من قدر هؤلاء، فالهؤلاء عنده كانوا وعمروا وطولوا في الضيافة وإن طردوا أوأخطأوا - في التاريخ- أو جني عليهم فلم يكن ذلك بكاف لاستبعاد شغلهم في الموسيقى وقد أضافوا عليه أوانتحلوه أشياء من هناك وهناك أوفوتوه خفية عن البصر والنظر والقلم والوتر· إن من يريد أن يفهم أكثر أويستزيد في العمق أويغرق في التفاصيل والتجليات التاريخية والجغرافية عن ''الهؤلاء'' الذين انخرطوا في لحظتنا الموسيقية وفي أنشوداتنا وفي ملاحمنا اللهوية والتسلوية كما في طربنا وطبخنا وصحوننا ومجالسنا، على من يريد إمتاع نفسه، ومؤانسة نفسه بقراءة هذا المصنف بالنقد والتدارس والتفكيك··· أما أنا فأنشغف بالفن وحواسه اليقظة، بالفن وطربه، بملاعب الصًبا ونوادي الأنس، بالليل يا ليلي وعتابات ليلى، بليلي بونيش (lili boniche) ولين مونتي (line Monti) وسليم الهلالي وموريس المديوني، وليلى العباسي، وحكايا غزيرة مغزارة عن أصحاب الصنعة والمزاج والحس والخيال والفكاهة··· إنها حقا الأماسي ولياليها الياسمينية كما غناها الهادي جويني وكما هي أجواء المديوني ودالي وبهيجة ونعيمة، الأثر عن المأثور والوصلة من عشاقها ترحل صوبنا، لقد كانت حلاوة وروعة وجدية ما كتبه سعد الله ليس في التوثيق بل في الإلتقاط، ليس في هاجس البحث عن الكمال في الكتابة التاريخية بل في اللاإكتمال والمناضلة في تقديم مادة نابضة، وتقديم زخم من المعارف والألطوفات وكذلك مباغتة الوعي وخلخلة استقبالاته بمفهومية جديدة لتاريخية الغناء، جذوره ومصادره، حقوله وأمكنته، توزعاته وانبثاثاته، تواريخ ميلاده ومصادفات وفاة صانعيه وآبائه··· إن الخيط الذي كان يعثر عليه من خلال هذه الكتابة الشغوفية كان دائما في سرد الأقاصيص والجماليات التي ترشح هذا الفنان على أن يكون هوالأسطورة الليجوند '' légende أوهو الحزين المحمل على صناديق الشقاء والسيزيفية والدرب الوعر، مثله شقاء الميلوديات والايقاعات والتطبيقات والذاكرات··· هذه الأساطير لم تكن إلا أجزاء متناثرة في التاريخ وفي الجغرافيا وفي الوثيقة والصور وليس في البساطة إجراء الأرشفة والفهرسة والتبويب وتأثيث المكتبة الموسيقية العرب أندلسية أوالمتوسطية أوالإسلامية اليهودية··· إنه وفقط عمل في أول الطريق، عمل يبدأ بالحكي والتذكر وإنعاش الخيال والذوق الرهيف والمرح الحنون غير المؤذي، وهذا الجهد إن يبذل- كما مع فوزي سعد الله- يجسد مرحلة جديدة في النظر الفني للتراث الكوسموبوليتي الضخم الذي يظل دائما على ترقب لنفضة غبار ورشة تنظيف واستعادة لكل ما يمكن استعادته من تصحيحات ومراجعات، على أن الذوق هوالسيد والمؤسسة الذوقية ذات التقاليد والقدرات والإمكانات هي السيدة والميزان وهي من يجزل العطاء ويصنع الفرق بين مجتمع أحادي، منخور، سلطوي، وآخر تنوعي، فسيفسائي، رحيم ومتسامح وذواق··· لقد وجد الطرب كي ينسى الناس غيره ووجد اللهوكي ينسى الناس جدهم ووجد اللهوووجدت نواديه كي يرتحل الناس من عالم نحوآخر، مسألة هي أبعد ما يكون عن الهوية أوالطائفه أوالخلاص الأيديولوجي أواليوطوبيا السياسية أوالشعبوية المخدرة··· وبالأخص هذا الفن الحضاري، الشقي في وعيه، المثير في منزلته، في كينونته، العابر للحدود، العارف لعدة أسفار ودياسبورات··· عملت ما يضني من التعب ويرهق هذه الفنانة المسماة رينيت الوهرانية، انتمت الى جوقة الشيخ محمد العنقا، عصامية مندفعة، اجتهدت في تحصيل اللغة العربية، تمثلت الأداء الغرناطي، كتبت بطريقة براي ودونت، عزفت المكفوفة ألحان الملائكة والإنسان، إشتغلت سلطانة داوود على المندولين واجتمعت على قلب واحد مع مسعود المديوني الذي حرضها على الدربوكة والمندولين عاصرت فضيلة الجزائرية ومريم فكاي وعبد الكريم دالي كما عاصرت الحقبة النارية آنذاك واختفى عنها المديوني وتوارت هي أيضا عن الضوء ولمعته بعد حرب جويلية'' جوان من سنة 1967م، رينيت السلطانة، الضفدعة، الملكة الصغيرة التي عشقها الكل وصاحبوها في الموالد والختان والأعراس والعقيقات بلغت الأولمبيا، كما جالت بين ردهات مسرح '' الباستيل'' وعلى خشبته غنت وتسلطنت·· وكانت أخرى، ثانية على جودة من الأداء والتأنق والألق الأنثوي الصارخ والصادح، إن لين مونتي بدت كايديث بياف في شرقيتها المفعمة بروحية فريد الأطرش، نحت منحى الموزيكول ثم غنت ''الفرانكوآراب'' موجة ذلك الزمن الذي أردفته المتألقة بترنيمات الفلامنغوكما في أغنية '' الناس ينادونني الشرقي لأنني عاطفي'' وبالعربية تلك المقطوعات التي لا تنسى ''اكتب لي شوية'' وكذلك ''يا أمي'' و''أنا لولية''··· رحلة الطرب والفرح، النفي والنبذ والوحدة والورقة المسكينة، رحلة التعشق في الجزائر ووهران وفي إسبانيا وفرنسا عبر المندولين، رحلة التعشق الكبير والحنين إلى قصبة ادزاير وشارع راندون، كان ليلي بونيش أوإيلي يفاخر صحافي جريدة ليبراسيون من ذات عام 2008م عن جذوره وأرضه، عن مدينة أقبووبجاية، ''جئت من أقبوفي منطقة القبائل، والدي عندما كانا يتخاصمان، كان يتحدثان بالقبائلية حتى لا يفهم الأطفال كلامهما''··· إن ايلي الذي وافته المنية في 2008م كان على هذا الشيء الجاذب، الغامض من دقة الفن وطيب مجلسه، صاحب بهجة يصنعها وإن لم تطلب، ذاك ما يذكره الباحث فوزي سعد الله عنه وعن اجتهاداته التي تحاشى من خلالها المس بالجوهر العربي عنده أدائه ''الفرانكوجزائري'' بل كان من أفصح الفنانين وأكثرهم أصالة ثقافية، كان إيلي يقول ''كنت أتحدث اللغة العربية في القصبة'' فضلا عن اقتحاماته لألوان وصنوف أخرى من الموسيقى التي تستطيع أن تحرك أي مواطن من ساكنة العالم بأسره من الروميا والتانغووالبوليرووالأفرو- كوبية كما استلهم الإيقاع اللاتيني والغناء الفرنسي في رائعتي ''بامبينوا'' و''لامًاما'' لشارل أزنافور·· إن رينيت ولين مونتي وليلي بونيش وأمثالهم من بيئات متعددة جاؤوا وأفادوا ولهم مجالس وحكايا وأغان وكمنجات ونايات، كانت رينيت الوهرانية مكفوفة - فقدت البصر - على شظف العيش نشأت وتدربت وتقدمت على الركح بثقة العازفة، المؤدية، الآملة في المستقبل، وتماهت لين مونتي في نموذجي بياف وأم كلثوم مع فرادة جمال وحضور، ولم يعرف بونيش الكتابة ولا القراءة غير أنه تجرأ بفصحى عربية نقية مثلت جزءا من الإجتهادات الذكية، النادرة، وفوق ذلك وأهمه هو الجزء الذي يحفر في المنسي والمعتم والملتبس حتى يضيء ليلنا أكثر ويستأنس نادينا أكثر، فالليل والنادي والسهر يطول···