في البداية، لابد لي من الإشارة إلى ألا طائل من الدخول في متاهات التعريف لتحديد من الذي يستحق صفة المثقف ومن الذي لا يستحقها. المفردة العربية ذاتها لا تفي بالمقصود مثلما تفيد نظيرتها في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ذلك أن الأمر يتعلق هنا بأكثر من ''مثقف'' (cultivé )، ثم إنه من الأحسن تفادي هذا التعريف مادام كل تعريف من هذا القبيل لا يخلو من الاعتباط. في الجزائر، غالبا ما نأسى لغياب المثقف عن عمليات التغيير الاجتماعي والسياسي، كما لو كانت هذه العمليات خبط عشواء، مادامت تتم من دون رؤية مضبوطة مسبقا يسهم في وضعها مَن هم أحق بذلك. هكذا يحدث التغير (الذي هو القاعدة في حياة البشر) إما بفعل المجتمع بحسب ما يجده متاحا له من إمكانيات وما يخضع له من إكراهات ناجمة عن تناقضاته وأنواع معاناته أو يحدث (أي التغيير) بفعل السلطة التي لا يمكن أن تبادر إلا بما تمليه عليها مصلحة نظامها أساسا. بعد ذلك فقط، يستطيع المثقف، بشكل أو بآخر، أن يبرز على الحلبة كي يدلي برأيه، إما موافقا أو معارضا للأمر الواقع، مشيدا ب ''المنجزات'' أو ناقما على الإخفاقات. هكذا، نجد المثقف عندنا مغيَّب من الجانبين. أولا، من جانب نظام الحكم: لابد أن نتذكر أن نظام حكمنا قد قام، أصلا، على تغييب المثقف حتى وإن استحال عليه الاستغناء عن المتعلمين، لكن إلا ليتخذ من هؤلاء مجرد تكنوقراطيين يأتمرون بأوامره ولا طموح لهم في الإسهام في وضع مشروع مجتمع نهضوي يسعون إلى تحقيقه. ومع ذلك، أستطيع أن أجزم أن معاناة المثقف من ضغط المجتمع، في عمومه، يمكن أن تُعتبر، بمعنى ما، أعظم من معاناته من نظام الحكم. لذلك تجد جل مثقفينا يحاولون مجاراة المجتمع ظنا منهم أن أفراده لا يستمعون إليهم إلا في اتجاه ما يرضيهم ويطمئنهم على حالهم، مع الحرص على تفادي ما قد يتسبب في قطع الصلة بهم. غير أن هناك أسبابا أخرى ذات الصلة ب ''هوية'' المثقف ذاته في تفسير غيابه بوصفه قوة تغيير في المجتمع. فما نقوله، عادة، عن صفات أخرى نقوله عن المثقف حين نعتبر أن المرء لا يولد مثقفا بل يصير كذلك. والحقيقة أن صحة هذا الموقف تبقى نسبية لأن المثقف يولد، أيضا، مثقفا قبل أن يصير كذلك، لأن الثقافة تبدأ، أصلا، مع رضاعة حليب الأم وتتشبع بطبيعة معاملة الوالدين ونمط حياة الأسرة. فإذا نشأ المرء وترعرع في أسرة ومحيط تسود فيهما الأمية وقيم البداوة ومشقة العيش، وحيث لا أثر للكتاب والأنشطة الثقافية إلا ما ندر - كما كان الحال في بلدنا زمن الاحتلال وسنوات بعده - فلا شك أن هذا المرء، رغم تعلمه، سيبقى، من الناحية الثقافية، يعاني نقصا حتى وإن استطاع أن ينجح مهنيا ويكون أستاذا كبيرا لاسيما في ما يسمى بالعلوم الدقيقة. فهذا النجاح لا يكسبه، بالضرورة، صفة المثقف (intellectuel).إنه لمن الصعب (ولا أقول من المستحيل) تصور مثقف أصيل وهو مولود لأبوين أميين. لكن ذلك ليس عارا على الإطلاق - خاصة وأن جلنا معنيون به - وإنما هو مجرد أمر حريٌّ بأن ننتبه إليه لفهم واقع مثقفينا. إن غياب هذا الموروث هو الذي يفسر، إلى حد كبير، قلة نجوع مثقفينا في الفعل الاجتماعي والسياسي. كما يفسر، بوجه ما، ما نلحظه لديهم من غياب تلك الرزانة التي تطبع سلوك المثقف الأصيل ومن تشنج في تقديم الحجج وضمور روح النسبية في إطلاق الأحكام ومن صعوبة تقبل الآخر إذا وقف في طريقهم لأنه ليس كما يريدونه أن يكون. هناك أمر آخر تهمني الإشارة إليه في السياق ذاته. كثيرا ما يقع الحديث عن ''انقسامية'' المثقفين في الجزائر. أظن أن هذه الانقسامية، من ناحية التصرف أيضا، واقع سوسيولوجي لا جدال فيه، حتى وإن ظلت كل من الفئتين المعربة والمفرنسة، أصلا، من الطينة الجزائرية نفسها وعاش أفراد كلتيهما ظروف القهر والحرمان نفسها أثناء الاحتلال، وترعرعوا في جو خنقته الأيديولوجيا بعد الاستقلال. فعلى الرغم من أن هناك تقاربا في الاتجاهين يجري، منذ فترة، بين الفئتين، إلا أن ما ميز المثقف المفرنس، بصفة عامة وإلى عهد قريب على الأقل، هو استئنافه لصيغ الماضي في تصرفه مع بني جلدته كما لو كانوا ''أنديجان'' إلى درجة أن الكثير من المفرنسين يستنكفون من الحديث بلغة قومهم في حياتهم الخاصة وحياتهم العمومية. كما أن الخطاب الثقافي الذي يحملونه غالبا ما لا يخلو من بعض الاستلاب. أما في ما يخص المثقف المعرّب، فقد كان، في الواقع، ضحية سياسة التعريب الموسومة بالارتجال والاستغلال السياسي، كما كانت مسيرة الكثير من المعربين مضطربة للغاية، وأنا واحد من هؤلاء. ما نلحظه عن هذا المثقف، في معظم الأحيان، هو تصرفه مثل غالبية الناس بحيث تجد خطابه الثقافي يكاد لا يختلف عن خطاب العامة إلا من حيث استعماله للفصحى. بل إنك لتجد عددا من الأساتذة الجامعيين لا يرون بدا من الاقتداء بالعامة في الأفكار والتباهي بالتدين، قولا ومظهرا (جلبا للمصلحة واتقاء للأذى، لاشك) إلى درجة أننا نرى زبيبة تعلو جبين الكثير منهم مصداقا للآية ''سماهم على وجوههم من أثر السجود''. بعد استعراض هذه الجملة من الأسباب المفسرة لغياب المثقف الجزائري في عمليات التغيير، لا يسعني، في الختام، إلا أن أنهي بهذه النظرة التشاؤمية. على العموم، يبدو لي أن المثقف الجزائري يظل مجبرا على مواجهة قدر محتوم: فإما الموالاة إن رام السكينة، أو المنفي إن هو أراد تغييرا جادا. هذه الموالاة تكون للسلطة وللمجتمع معا ذلك أن الطرفين، في نهاية الأمر، يظلان، وإن تخاصما، متفقين على رفض أن يزعزع سكينتهم أحد، ولا يهم إن كان هذا الأحد مصيبا في ما يرى أو مخطئا فيه. أما المنفى، فيكون إما داخليا أو خارجيا إلى أن يموت المنفي بغيظه. ولعل أبرز مثال على ذلك المصير الذي عرفه محمد أركون.