تقع بلدية بوخضرة المنجمية في شمال شرق مدينة تبسة، بحوالي 54 كلم، وترقد على أحد أهمّ مناجم الحديد بالمنطقة، وينحدر غالبية سكانها من عرش ''أولاد سيدي يحيى'' وهم القوة العشائرية الثانية بالولاية بعد ''النمامشة''، أصحاب الأولوية في استحقاقات التنمية والانتخابات، وظلّ ''أولاد سيدي يحيي'' الأقل شهرة وانخراطا في مسالك التهريب، والأنشطة التجارية الموازية. وبلدية بوخضرة شاهدة على واقع الحال هذا، فلم يجنح شبابها، كما كهولها وشيوخها، إلى عالم التهريب، رغم محاذاتهم للحدود البرية التونسية، ولم تشهد المنطقة خلال سنوات الإرهاب أيّا من الأعمال المخلّة بأمن المواطنين وممتلكاتهم الخاصة والعامة، ولم يلتحق أي من أبنائها بعصابات الإجرام الإرهابي، بل كانوا حصنا منيعا أمام كل محاولات اختراق المنطقة، وظلّوا صابرين وقانعين بفقرهم، إلى أن أقدم الشاب امحسن بوطرفيفب على حرق نفسه، احتجاجا على الظلم والجبروت، تماما كما فعل الشهيد ''البوعزيزي'' في تونس. لكن شباب ''بوخضرة'' قالوا بصوت واحد: ''نريد أن تلتفت إلينا سلطات البلاد، وتمنحنا الحقّ في حياة كريمة، ولسنا راغبين في التكسير والتحطيم لإيصال رسالتنا السلمية.. نريد حياة بأخفّ الأضرار، وعدالة في التنمية المحلية، وحدّا أدنى من الرفاه والإزدهار''. هذه الرسالة أوصلها إليكم بأمانة وصدق، لعلّها تجد مستقبلين جادّين، يحسنون فنون القراءة والتأويل ما بين العبارات والسطور. اللّهم فاشهد إنّنا صابرون وصلت الجمعة صباحا إلى مدينة بوخضرة، برفقة زميلين، وكان باستقبالنا ''مازوز مصباح''، أحد أعيان المنطقة، ورغم الحزن البادي على ملامحه، جراء المصاب الجلل وحالة الترقّب، لما ستؤول إليه الحالة الصحية ل ''محسن بوطرفيف''، إلا أنه بادر إلى التنكيت بطريقته التهكّمية الواعية: ''أهلا بكم في بوخضرة.. كما تلاحظون لا يمكن إلاّ إكرامكم بقهوة، لأن عدد مقاهينا يكاد يكون عدد بيوتنا، فلا مركز للشباب ولا دار للثقافة ولا هم يحزنون. وكل ما تبقى من خيرات المنطقة، هذا المنجم الوارف أمامكم وقد صار بأيدي الأشقاء الهنود، أرسيلور ميتال''. وفي أقل من ربع ساعة، أحاطت بنا جموع من الشباب المتعطش للحديث، وفي مقدمتهم أصدقاء محسن، ممن كانوا معه أثناء إقدامه على حرق نفسه، وقبل أن أسأل أحدهم عن الحادث بادر (م. نازي) يقول: ''كنت معه ذاك اليوم. لقد ذهبنا إلى رؤية المير من أجل أن يتركونا في السكنات الإجتماعية التي استولينا عليها منذ سنوات بعدما ظلت شاغرة، فنحن شباب متزوجون وعاطلون عن العمل، وباعتباره رئيس البلدية فقد توسّمنا فيه أن يشفع لنا بحقنا في هذه السكنات وفي إيجاد مناصب عمل بالمنجم على ضوء الأخبار الرائجة بعزم إدارته توظيف بعض الشباب، غير أن ''المير'' رد علينا بطريقة غير لائقة، فثارت ثائرة محسن ولم يتحمّل استهتار ذاك المنتخب، وخرج باتجاه مكان مجهول على متن دراجته النارية، ثم عاد بعد لحظات وسكب البنزين على جسده، وأشعل نفسه على الطريقة البوعزيزية''. وأضاف آخر: ''لم نكن نتوقّع من صديقنا محسن أن يقوم بهذا الفعل، فهو أعقلنا، ويحب كثيرا ابنه ''نضال''، 03 سنوات، ولأجله فتح ''براكة'' لبيع السندويتشات الخفيفة لفقراء المدينة، وكان متعلقا بوالده عمّي ''اعمر'' وبوالدته وشقيقتيه، وكل ما كان يرغب به هو منصب عمل قار، وبيت صغير يأويه. لم يشتغل بالممنوعات ولا بالتهريب رغم ما يمكن أن يكسبه من مثل هذا النشاط الممنوع''. دموع عمي اعمر والد محسن بوطرفيف إمتلأت عينا عمي ''اعمر'' والد محسن بوطرفيف بالدموع وهو يستقبلنا ببيته المتواضع، وبين أحضانه حفيده ''نضال'' ابن محسن الراقد تحت العناية المركّزة في مشفى عنابة. ولم أكن بحاجة لأسأله عن حاله ووضعه بعد ذاك المصاب، فالأمر في غاية الوضوح: عمّي اعمر في حوالي الرابعة والخمسين فقط من العمر (من مواليد 1957)، لكنه يبدو في السبعين. لم يرغب بالذهاب إلى زيارة فلذة كبده بالمشفى لأن قلبه رهيف ولا يتحمّل؛ ولأنه من جهة أخرى لا يملك إمكانات السفر، وليس بوسعه أن يفعل شيئا لإنقاذ ابنه. ومع ذلك يقول: ''حسبي الله ونعم الوكيل. ولدي بين يديّ ربه، فإن شاء له أن يعود سيعود، وإن شاء أمرا آخر، فلا مردّ لقضاء الله. لقد منعت أن تستغل بعض الأطراف مأساة إبني لإحداث الشغب، فذلك ليس حلا، وليس من أخلاقنا وشيمنا، وكل ما أطلبه هو أن تكف المظالم وتلتفت الدولة لمآسي شبابنا في كل ربوع البلاد''، وقال بأن مكالمات هاتفية كثيرة وصلته من أعلى الهيئات في الدولة للإطمئنان على صحة محسن وحالة والدته المعاقة والمنهارة نفسيا، وأن ما لقيه من هبة من كل مواطني بوخضرة هو أعظم ما عاشه طيلة حياته: ''الشعب الشعب.. ما كانش كيف الشعب.. عاونوني باللي يقدرو.. بالكلمة الطيبة والوقفة معايا.. ربي يجازيهم خير ومازالهم واقفين كيما راك تشوف وما يخلونيش وحدي.. ما نطلبش أكثر من هذا''، وأضاف: ''ولدي الأكبر من محسن متزوّج هو الآخر، وله ولدان، ولا يجد أي عمل في قريتنا لأنها بدون موارد، أما ولدي الأصغر فقد كان محظوظا بدخول الجيش. ومن لا يسعفه الحظ من الشباب بدخول الجيش أو الشرطة، فالبطالة مصيره المحتوم''، لكن شبابا كثيرين وقبل أن يحققوا هذه الأمنية -كما يقول أحدهم- تكون مختلف أمراض الحساسية والتنفس قد تمكّنت منهم، بفعل الأغبرة المنجمية وتلوث المحيط. ولدى اتصالنا بالمركز الصحي الوحيد ببوخضرة لتأكيد الأمر، اتضح أن الآلة البيروقراطية لا تزال تشتغل بوتيرتها القديمة، وتعتبر المعلومة، سلاحا قد يستخدم ضدها. نريد أن يستقيل المسؤولون المحليون كل الذين اقتربت منهم ''الجزائر نيوز'' في بلدية بوخضرة تحدّثوا بصوت واحد وقالوا بأن الدولة قد خصصت أموالا طائلة للنهوض بالتنمية المحلية، لكن المسؤولين المحليين خانوا الأمانة، ولم يظهر من تلك التخصيصات المالية ما يعيد إليهم الأمل في الحياة الكريمة. فلا مشاريع الفلاحة أفلحت، ولا الطرقات أنجزت بالمقاييس التي تضمن ديمومتها، ولا السكنات وزّعت إلى مستحقيها، ولا أشغال التهيئة حققت نجاعتها. ويضاف إلى ذلك التدهور الفظيع للمحيط، حيث انتشار القمامة وانعدام الإنارة العمومية وشطب البلدية من أي فرصة للاستثمار، والنتيجة أن الشباب اليائس ازداد يأسا، فلم يجد أمامه غير السقوط في مستنقعات المخدرات والمهلوسات للهروب من واقعه المزري، وإن إقدام ''محسن'' على حرق نفسه أمام المير المنتخب عن حزب العمال إلا علامة من علامات اليأس المطلق الذي قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. ولم يترددوا في اتهام المسؤولين بالفساد وخيانة الأمانة واستغلال الوظيفة للإبتزاز وتحقيق المآرب الشخصية. واستدل ''نحال برينيس'' بالقول: ''عمري 55 سنة، وأنا أب لسبعة أطفال، بطال لا رزق لي غير ما أجنيه من أنشطة شاقة غير قارة، تقدمت بطلب للحصول على سكن اجتماعي منذ 23 سنة، وإلى غاية اللحظة لم أحصل على مسكن يحفظ استقرار عائلتي، ومازلت ''كراي'' عند الناس''. وانفجر آخر يقول بأن مناصب الشغل على قلتها تباع، فماذا ننتظر من عامل يكون قد اشترى منصب عمله غير الفساد، وأضاف بأن بعض المستفيدين من الشبكة الاجتماعية قد جيئ بهم من الدواوير ويعملون رعاة لأغنام من جلبوهم، في حين لا يستفيد من هذه الشبكة مستحقوها الحقيقيون. أما الشباب الجامعي فأعدادهم بالعشرات، وكلهم عاطلون عن الشغل، ويائسون من المستقبل. بلغ السيل الزبى بالرغم من إقدام والي ولاية تبسة على إقالة ''لمير'' نازي بلقاسم، ووعده للمواطنين بأن يولي اهتماما خاصا لبوخضرة، ورغم اهتمام السلطات العليا للبلاد بتطورات حالة المقدم على حرق نفسه محسن بوطرفيف، قال شاب في غاية اليأس: ''قولوا عني أنني في الثلاثين من العمر، وإني طيلة ثلاثين سنة لم أر شجرة جديدة تم غرسها، فكل الأشجار التي ترونها بوسط بوخضرة تعود إلى العهد الاستعماري. ماذا جلب لنا الاستقلال غير المسؤولين الفاشلين والفاسدين؟ لقد صبرنا كثيرا ولم يعد ممكنا الصبر أكثر. ماذا نفعل بمحلات الرئيس، نريد وحدة للإنتاج تشغّل عشرات البطالين وليس تجارا جددا لإفقار ما تبقى من التجار الفقراء أصلا. نريد من يفكّر فينا بطريقة علمية وليس بالشعارات والكلام الفارغ''.عبارات مماثلة وأخرى مؤثرة جدا كانت تتعالى من أفواه شبيبة تسرب الشك إلى نفوسها، وبلغ الإحباط منها درجات متقدمة جدا، فإن لم تسارع السلطات المحلية إلى مبادرات حقيقية، وإن لم تشرع في تجسيدها ميدانيا، فإن أمثال محسن كثيرون ولم يعد أي شيء يخيفهم.