عرفت الصحفي القدير والكاتب الكبير معمر فارح عبر كتاباته في ''لوسوار دالجيري''، فصرت أقرأ له وأتابع أخباره إلى غاية تقاعده، وعودته إلى مسقط الرأس في مادور، التي أنجبت أبوليوس والطاهر وطار. والتقيته أوّل مرّة قبل بضعة سنوات في سوق أهراس، حيث كنت مدير الإذاعة المحلية هناك، وقرأت في الصحافة أن معمر فارح سيحلّ ضيفا بمكتبة ''بن سديرة'' العريقة، لإمضاء كتابين جديدين صدرا له في تلك الفترة. فأرسلت صديقتي وزميلتي المنشطة الرائعة فايزة قارح إلى المكتبة، وطلبت منها عدم الاكتفاء بنقل الخبر، وأنّ عبور شخصية إعلامية وثقافية من حجم فارح، وهو من الأبناء البررة والكبار للمنطقة، يتطلّب حوارا يليق بقام الرّجل. حضرت إلى حفل البيع بالتوقيع، وقدّمت نفسي للسي فارح كما قدّمت له فايزة، وقلت له بأنها ترغب بإجراء حوار معك. فلم يتردّد الرجّل، فأسهب في الكلام، وتحدّث عن كتابيه الجديدين، وعن الصحافة المكتوبة في الجزائر، وانتقد الطريقة التي يتمّ بها احتكار الإشهار العمومي، معتبرا ذلك نوعا فاضحا من الضّغط على الجرائد الجادة، وسيروما ريعيا بالنسبة إلى صحف كثيرة أخرى هي في وضع الموت الإكلينيكي مهنيا. وعندما أنهت زميلتي عملها، قمت بشكر السي فارح على قبوله إجراء الحوار، فقال لي: لقد تجرّأت على الحديث من دون تحفّظ، وبإمكانكم أن تحذفوا ما ترونه غير قابل للبثّ. وأجبته بالقول أنّني لا أمارس الرقابة في الإذاعة، وسوف أطلب من الصحفية بثّ الحوار كاملا. وفعلا طلبت منها ذلك ونحن في طريقنا إلى الإذاعة، وقلت لها بالحرف الواحد: من العيب والعار أن نحذف أيّا من كلام إعلاميّ ومثقّف من حجم السي فارح. فبثّ الحوار كاملا غير منقوص، وربحت الإذاعة ثقة رجل كبير. ومن يومها كذلك أصبحت تربطني بالرجل علاقة ودّ واحترام كبيرين، أسأل عنه بالهاتف من حين إلى آخر، وأعبّر له عن إعجابي بكتاباته عن طريق الرسائل الإلكترونية، وقد استخدم مرّة إحداها، وخصّني بافتتاحيته ''بوز كافي'' للتعبير عن حالة يأسي من الوضع الذي آلت إليه الحياة في بلادنا، وصرت مدمنا على قراءة ''لوسوار دالجيري'' سيّما ما كان يكتبه كل خميس بالصفحة الأخيرة. وما يزال مقاله ''لو كنت رئيسا'' محفورا بذاكرتي، ولست أدري كيف استطاع في حوالي 1500 كلمة، أن يقدّم برنامجا لإعادة تأهيل الجزائر، وبعث الأمل في نفوس شعبها المتعطّش للسلم والحريّة والنماء؛ وكان ذلك من المقالات الأخيرة له قبل أن يختتم مسيرته الصحفية بسلسلته ''الهربة الكبرى''، ويشكّل مجموعها إحدى روائع الروايات الجزائرية. ونقرأ فيها قرار الشعب بالحرة، حيث تجد الحكومة نفسها في ورطة حقيقية بعد الهروب الجماعي، فتصبح الإنتخابات ضربا من العبث، وتفقد الصراعات أسباب وجودها، وتدخل السلطة في دوامة من الأسئلة غير المجدية. وبتلك الملهاة، غادر فارح عالم الصحافة في صمت، مستسلما إلى ''مادور'' وضيعته بها، حيث يقضي فصل الصيف هناك ويملأ رئتيه بالهواء الصافي، وفي الشتاء تستهويه عنابة، فيقضي بها الفصل متمتعا بالبحر ونسيمه العليل، غير مكترث بالسباحة وشتى مظاهر التعاطي التقليدي مع الفصول. عندما سألته عن سبب التقاعد وهو لا يزال في أوج القدرة على العطاء، أجابني بأنّه قد اتّخذ قراره ذاك بعد بلوغه الستين من العمر، وهي السنّ المطلوب فيها الخلود إلى الراحة والتمتّع بما تبقى من الحياة بعيدا عن الضوضاء والصراعات. فقد (اشتغلت بالصحافة العمومية، وخضت تجربة الصحافة المستقلة، وكنّا في لوسوار نحاول أن نبقى أوفياء لقيم الجمهورية والديمقراطية، وساهمت بما أوتيت من قوة وجهد في التأسيس إلى الحرية والإنفتاح والتسامح؛ وها أنذا أختار التقاعد لأفسح المجال للأجيال الجديدة من الصحفيين، لتخوض تجربتها.. فتلك سُنّة الحياة). كم كنت كبيرا يا سي معمّر وأنت في الخدمة وها إنّك تزداد كبرا وقيمة بقرار تقاعدك رغم اشتغالك في القطاع الخاص وكونك أحد المؤسسين لجريدتك، في حين لا يزال الكثير من السبعينيين والثمانينيين ينشطون في القطاع العام، ومتشبّثون بمناصبهم غير مبالين بثقل السنين وبالجزائرالجديدة. إنّك حقّا حقّا رجل جدير بكلّ المحبّة والتقدير والإحترام.