سؤال مركزي مطروح هذه الأيام في الجزائر، ليس على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى المؤسسات السياسية الرسمية والمعارضة، هل يحصل في الجزائر ما حصل في تونس ومصر؟ إجابة المؤسسة الرسمية والإعلامية في الجزائر على هذا السؤال تشبه الإجابة التي كانت تقدمها السلطات المصرية، بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في تونس، وهي الإجابة نفسها التي تقدمها أي سلطة في أي بلد عربي··· فهي تركز على الخصوصيات الفعلية أو المتخلية، الموجودة، في كل بلد وعلى عدم توافر نفس الشروط التي أدت بالانتفاضة الشعبية في مصر والثورة في تونس. فالجزائريين، الرسميين، يركزون على سبيل المثال على عدم وجود قمع للحريات في الجزائر، بنفس الدرجة التي كانت تتواجد في تونس، سمح للجزائريين بالتعبير عن مشاكلهم، بحرية نسبية أكثر وعلى وجود أقل للفقر في الجزائر، بالمقارنة مع مصر وعلى توافر الجزائر على سياسة اجتماعية، ليست حاضرة بنفس القدر في مصر ... الخ. إجابات ظرفية وقطاعية، قاصرة، لا تراعي حقائق التاريخ والمجتمع ولا منطق الجغرافيا ولا خصائص الوضع الدولي وشروطه، فقد أكدت هذه الحركات الاحتجاجية، التي نجحت في اقتلاع نظام بن علي، الذي كان يقال عنه إنه مستقر وبناجح'' بمقاييس الاقتصاد الدولي. كما نجحت هذه الحركات في زعزعة نظام مبارك المستقر، صاحب الدور الدولي الهام، لتؤكد حقيقة تم تغييبها لفترة... أننا ننتمي إلى عالم عربي واحد، عرف حركة التحرر في الوقت نفسه تقريبا وطبق الاشتراكية افي الفترة نفسها، وقام بانقلاباته العسكرية في السنوات نفسها وعرف الحزب والأحادية والتعددية والمجتمع المدني... الخ، في الزمان نفسه وبنفس التطبيقات تقريبا، فما الذي يمنع أن يعرف التغيير والثورة، في الوقت نفسه؟ خطأ هذه ''التحاليل'' الرسمية السياسية والإعلامية في تفسير ما حدث في تونس ومصر للقول بعدم إمكانية حدوثه في الجزائر، يكمن أساسا في القراءات السطحية لما حدث في هذين البلدين، فهي قراءة تركز على شرارة الانطلاق الأولى، كما فعلت عندنا مع السكر والزيت، وعلى بعض الخصائص التي تميز فعلا كل تجربة، دون أن تراعي ما يجمع بين كل الحالات، وهي كثيرة فنحن أمام نفس الأسباب العميقة للانتفاضة العربية التي حصلت فعلا في تونس ومصر، ويمكن أن تحصل في الجزائر واليمن وسوريا الهادئة... الخ. أسباب مرتبطة بالفساد الذي استشرى وبعدم التداول على السلطة لدرجة أصبح فيها النظام السياسي لا يفرق بين المملكة الوراثية والجمهورية. أسباب مرتبطة بخنق الحريات ويغلق مجال الإعلام وبالدوس على الحريات الفردية والجماعية وعدم العدل في توزيع الثروة الوطنية ... الخ. أسباب عميقة كثيرة، نتوقف عند هذا الحد في سردها، حتى لا نأخذ كل الحيز الممنوح لنا على صفحة الجريدة. لا يعني هذا الكلام أن الانتفاضات الشعبية في العالم العربي يجب أن تحصل في الوقت نفسه وبنفس الشكل، فالأكيد أنها ستراعي ظروف كل بلد ومستوى تطوره الاجتماعي والعلمي، كما ستأخذ بعين الاعتبار مستوى التقدم السياسي ودور الأحزاب والنقابات فيه وقدرة المعارضة السياسية على العمل الميداني الفعلي بكل تأكيد. كما ستأخذ بعين الاعتبار مدى قوة النظام السياسي القائم وقدرته على المناورة وحتى ذكائه السياسي... إلى غيرها من الشروط التي بينتها بجلاء الحالتين التونسية والمصرية، علما بأن الأحداث الحاصلة فعلا بيّنت لنا بوضوح أن الحاكم العربي عادة ما يتأخر في الرد على مطالب الشعب، وهو يحاول التذاكي في الوقت بدل الضائع على شاكلة تغيير حكومة أو وزير أول، مما يزيد في تسارع أزمته، ليغادر السلطة بشكل سيء ومهين. ما حدث في تونس، وما يحدث في مصر هذه الأيام، يمكن إذن أن يحدث في الجزائر، حتى لو كان من الصعب، بل المستحيل التنبؤ بتوقيته المحدد وبشروط انطلاقاته الفعلية التي تبقى في حكم الغيب، باعتبار المنطق الخاص الذي يحرك المجتمعات ويسير منعرجات التاريخ لديها. في المقابل، يمكن التنبؤ بشروط حدوده على الأقل في أشكالها العامة، إذا راعينا ما نتوافر عليه من معطيات وما نعرفه عن مجتمعنا ونظامنا السياسي الرسمي والمعارض وثقافتنا السياسية الشعبية السائدة. معرفة وتجربة تؤكد أن فاتورة هذا التحول وهذا الحراك، في الجزائر ستكون باهظة، إذا راعينا وأخذنا بعين الاعتبار الكثير من المتغيرات التي تتحكم في تسيير، مثل هذا الحراك وتداعياته. فالثقافة السياسية المتسمة بجذرية كبيرة، لن تكون عاملا مساعدا على تحوّل سلس وهادئ. فقد علمتنا التجربة الجزائرية أننا ندفع الثمن، غاليا كل مرة حاولنا فيها التغيير. ضعف المؤسسات والتأطير السياسي الرسمي والمعارض قد لا يكون عاملا مساعدا على إمكانية إنجاز تحوّل سلس هو الآخر، فقد بيّنت الأحداث الأخيرة أن الشارع فارغ سياسيا وأن النظام سياسي الوطني قد فشل في إنتاج مؤسسات قوية يمكن أن تنجز مهام التغيير والتأطير بأقل التكاليف. مستوى الحوار السياسي بين مكونات الخارطة السياسية، معطل هو الآخر، نتيجة غلق الإعلام الثقيل، مما لا يساعد تماما على بروز اقتراحات وبدائل، يمكن أن تساهم في خلق حوار، نحن في حاجة له ككل، سلطة ومعارضة ومجتمع وربما بسرعة وقبل فوات الأوان. حالة عدم التوافق المقرون بالضعف التي توجد عليها المعارضة والقوى السياسية البديلة، يمكن إضافتها هي الأخرى، كعامل غير مساعد على إنجاز هذا التحوّل السلس. تحوّل سلمي تتوافر في الجزائر الكثير من شروط الموضوعية، فالجزائري تعقل أكثر، بعد محنة التسعينيات التي مرّ بها واستخلص بعض دروسها، بل يمكن القول إنه كفاعل سياسي أصبح أكثر عقلانية في التعامل مع محيطه. توافر سيولة مالية كبيرة نسبيا لدى الدولة، يمكن عدها كعامل مساعد آخر، على القيام بإصلاحات وتوزيع جديد للثروة يراعي مصالح الفئات التي همشتها التجربة الاقتصادية التي خضناها منذ الإعلان عن الانفتاح الاقتصادي في الشروط التي نعرفها كلنا، دون أن يكون صاحب القرار، تحت ضغط الحاجة لمساعدة خارجية مشروطة، أخيرا، بعد دولي مساعد، قد يكون هو الآخر عامل محفّز على القيام بتغيير أصبح مطلوبا شعبيا. الأهم من هذه العوامل المساعدة، طلب شعبي لإجراء إصلاحات عميقة، تتجاوز مسألة الأشخاص، لتمس المؤسسات وطرق تسييرها، أصبحت أكثر إلحاحا منذ سنوات بعد التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الجزائري بمختلف فئاته، فالجزائري الذي تعلّم وتعرّف على العالم الخارجي، وزاد سقف مطالبه كفرد وجماعة، لا يمكن الاستمرار في تسييره السياسي بنفس المؤسسات والعقليات وحتى الوجوه التي أصبح وجدانيا، بعيدا عنها جدا، وهو ما يعبّر عنه يوميا من خلال ممارسات كثيرة، كالحرفة والانتحار وحرق الذات... الخ، لم يقم الطرف الرسمي بقراءة عميقة لها، مكتفيا بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية السطحية. الشروط الموضوعية إذن، ناضجة للقيام بهذا الإصلاح العميق الذي تأخر نسبيا، فنحن أمام طلب واضح وشروط مساعدة، فهل العامل الذاتي متوافر؟ المقصود به إرادة سياسية فعلية، لدى صاحب القرار لإبعاد الجزائر من تغيير آت لا محالة اليوم أو غد؟ تغيير لازالت الجزائر تتحكم في شروط إنجازه بدرجة كبيرة، فإما أن يكون تغيير سلس وبأقل التكاليف، في حال توفرت المبادرة والنية والتوافق، أو تغيير من نوع آخر سيكون مكلفا بكل تأكيد، إذا استمر العامل السياسي الذاتي في الغياب، كما هو حاصل حتى الآن، للأسف الشديد.