يبدو أن النجاح الذي حققته تظاهرة عواصم الثقافة الإسلامية حفز العرب والعجم وكل من التحق بمنظمة المؤتمر الإسلامي على تدارك ما كان من تقصير طال مداه، في تحقيق تواصل مستمر بين الثقافة العربية ودول الأمة الإسلامية متعددة اللغات واللهجات والألسن واللكنات، ذلك التواصل العريق بين الثقافات والحضارات القديمة، حيث حقق العرب من خلاله نجاحا كبيرا مع العجم قبل الإسلام، تجاوز تأثره ثقافة اليونان الكونية أنذاك. الثقافة الإسلامية التي بلغت ذروتها مع ظهر الدين الإسلامي بدخول الناس فيه أفواجا، بضخ أفكارهم وثقافتهم وحضارتهم فيها، إضافة إلى ما كان العرب قد أخذوه من الثقافات المختلفة في شتى أنواع العمارة والفنون والعلوم النفعية والتجريبية ما تزال كنوزها تحفظ في معالمها وشواهدها وما كتب ودوّن وجمع بين دفتي مخطوطاتها، في انتظار من يبحث عنها ويرممها ويثمنها ويخرجها للوجود مثريا بها فضاء ثقافة العالم الإسلامي الإنساني. الذي مازال أهله يتبادلون روائع الفن والإبداع، رغم فترات التباعد والتنافر الإيديولوجي والسياسي الوافد الذي تعرّضت له مختلف أقطار الأمة الإسلامية من تمزيق وتفتيت طيلة وقوعها تحت طائلة الاستعمار والغزو الثقافي الأجنبي الذي لا يمكن الإفلات منه إلا من خلال فضاءات التظاهرات الثقافية الموضعية الإقليمية والمناطقية والجهوية المتميزة، باعتبارها الأرضية الصلبة التي تنمو فيها علاقات ثقافة الدول العربية والإسلامية وتوطيد صلاتها بثقافات الأمم والشعوب الأخرى، التي مازالت فيها الكلمة والصورة والمعلم والصوت وزنها الحضاري المتولد والمتجدد باستمرار، والهادف إلى التصحيح الفكري الشامل الذي فرضته الهيمنة الاستعمارية والتبعية الثقافية الشوفينية العرقية والحيرة العولمية الفكرية والثقافية الاجتماعية الجارفة، التي لا يمكن التصدي لها أو مواجهة وسائلها الاتصالية المتطورة وحتى الوقاية من شرها مرحليا، إلا بالعمل المكثف والإسراع في اختزال أو إلغاء المسافات والفوارق بين شعوب الأمة الإسلامية وتحقيق العدالة الإجتماعية والمساواة بين مختلف الجماعات والأفراد وإتاحة الفرص لأعمال وإيداعات وأفكار وبحوث ودراسات أبناء العالم الإنساني الإسلامي، الساعي دوما إلى الحفاظ على الشخصية والهوية والحرص المستمر والرفض الدائم في الاندماج والذوبان في الثقافات والأيديولوجيات والسياسات الوافدة الأخرى، رغم الاختلافات في العادات والتقاليد واللون واللسان والتوجهات الأيديولوجية والسياسية والمذهبية المرحلية الطارئة التي دفعت بالأمة الإسلامية أن تبقى تدور في حلقة الاختلالات السياسية والفكرية، الناتجة عن أثر الغزو الثقافي والمعرفي الخارجي والميل نحو ثقافة الشخصية والوطنية المحلية الضيقة التي مازالت تطغى على سياسة الدول المغلوبة على أمرها بتفضيل الفكر السياسي المرحلي الثابت على الفكر الثقافي المتجدد والمستمر، مما زاد الفجوة الثقافية والسياسية والفكرية والمذهبية اتساعا بين الدول الإسلامية أجهضت من خلاله العديد من المحاولات والمبادرات والاجتهادات لمختلف الهيئات والمنظمات والمؤتمرات والمؤسسات العلمية والفكرية الموكول لها مهمة التراث والثقافة والحضارة الإسلامية، إلى درجة الإلغاء والإقصاء لبعضهم البعض ردحا من الزمن. إلى أن جاء لقاء الجزائر التاريخي لوزراء الثقافة في المؤتمر الرابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي جرت أشغاله بالجزائر يوم 15 / 12 / ,2004 الذي كانت فيه لرسالة رئيس الجمهورية الافتتاحية وقعا كبيرا لدى المشاركين والنافذين وأصحاب القرار في المنظمة، خاصة وهو يذكر بالعرض والتحليل للمسار التاريخي للحضارة الإسلامية في مختلف جوانبها الفكرية والمعرفية والفنية والأدبية في عصرها الذهبي وما أصاب الأمة من فتور وترف وتخلف، وما سوف تواجهه من عواصف عولمية ثقافية واجتماعية مصيرية وجارفة هوجاء. تلك الكلمة الهادفة والرسالة المصدر لتأسيس عواصم للثقافة الإسلامية التي اتخذها وزراء الثقافة المشاركون في برنامج عمل الملتقى بإدراج أهم عناصرها في توصيات اجتماع وزراء الثقافة لمنظمة المؤتمر الإسلامي الرابع بالجزائر يوم 15 / 12 / 2004 المتضمن ترسيم عواصم للثقافة الإسلامية لتبرز من خلالها ما جادت به الحضارة الإسلامية من علوم وفنون وإيداعات أدبية في أرجاء دول وأوطان الأمة الإسلامية الإنسانية، حيث ومنذ ذلك اللقاء التاريخي ليوم 15 / 12 / 2004 أطلقت بل سطرت المنظمة الإسلامية للعلوم والتربية والثقافة (الايسيسكو) التي يوجد مقرها بالرباط (المغرب) باسم أمينها العام (عبد العزيز عثمان التويجري) برنامجا مميزا اعتمده المؤتمر التاريخي المؤسس (للعواصم الثقافية الإسلامية) في إقامة ثلاث تظاهرات للثقافة الإسلامية سنويا في عواصم المناطق الثلاث عربية وأسيوية وإفريقية، حيث كانت الانطلاقة الأولى لتلك التظاهرة الثقافية الإسلامية شبه العالمية في ظهور بدر فعاليتها بمدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مكةالمكرمة العام 2005م، ونظرا للنجاح الهائل والحضور الثقافي الإسلامي المتميز الذي حققته تظاهرة مكةالمكرمة، انطلقت تظاهرة عواصم للثقافة الإسلامية 2006 بالمناطق الثلاث المذكورة في كل من: حلب (سوريا)، أصفهان (إيران)، تومبوكتو (مالي). 2007 في: فاس (المغرب) وطرابلس (ليبيا) طشقند (أوزبكستان دكار (السينغال). 2008 في: الاسكندرية (مصر) لاهور (باكستان) جيبوتي (اريتريا). 2009 في: القيروان (تونس) باكو (أذربيجان) كوالالمبور (ماليزيا) نجامينا (تشاد). 2010 في: تريم (اليمن) دوشن به (طاجاكستان) موروني (جزر القمر)، 2011 في: (أندونيسيا) كونا كرى (غينيا) وتظاهرة تلمسان الثقافية التي تحتل الصدارة بالمنطقة العربية في العشرية الأولى من الألفية الثالثة باحتضانها التظاهرة التاريخية ''تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية'' الجامعة الشاملة لأنواع وأشكال وطبوع وأنماط كل ما جادت به الحضارة الإسلامية المادية وغير المادية وفق تلك المعايير التي ضبطتها المنظمة، في مراعاتها للدور الذي قامت به تلمسان في خدمة العلوم والمعارف والآداب والفنون الإسلامية عبر مسيرتها التاريخية، وطلوع أشعة شمسها الأولى وطنيا ومغاربيا وأوروبيا وإفريقيا، فتحا وتأثيرا وتأثرا باحتوائها رصيدا كبيرا من التراث الإسلامي والبربري الزناتي الوطني والمندمج كالأرابيسك والبربريسك والموريسك والإسباني والبرتغالي والمغاربي الأندلسي، كما كانت الفترات المستقرة والطويلة لأمراء تلمسان كالأدارسة والموحدين والزيانيين والمردينيين، حافزا مهما في تطور العلوم والأدب والعمارة والفنون والهجرات العلمية المختلفة نحوها. إلى جانب الرصيد البربري الزناتي المتنوع المصادر، وكل ما اكتنزته الحضارة الأمازيغية الزناتية والعربية الأندلسية الإسلامية وغيرها من الحضارات القديمة التي استوعبتها الحضارة الإسلامية في مختلف الفنون كالبابلية والأشورية والساسانية والفرعونية والرومانية والهندية والصينية والتركية وإعادة صياغتها وتمثلها في الإسبانية الاندلسية والمغاربية الأمازيغية الزناتية والسلجوقية والمغولية والفارسية والعثمانية الحديثة المتشبعة بالمنضور الإسلامي الأصيل فنا وعمارة وفكرا ومعرفة. ذلك العطاء الحضاري الذي أغنى مختلف المدارس الفنية والفقهية المتتابعة والمواكبة لمختلف العصور، من تلمسان إلى غانا وجاكرتا، محدثة بذلك حوارية فنية وفكرية دائمة التواصل بين الماضي والحاضر. في إبراز جماليات العلوم والفنون والمعرفة ومعالجة الأفكار والمعتقدات الدينية والمذهبية الدخيلة وفق منهاج الحق وأهداف الحقيقة. وإذا كان لقاء الجزائر التاريخي 15 / 12 / 2004 قاعدة لبعث عواصم للثقافة الإسلامية، فإن تلمسان ستكون قاعدة لانطلاق استراتيجية الثقافة الإسلامية الإنسانية وتحديد الأهداف ورسم الخطط وضبط البرامج لكل دولة طغت عليها التبعية والمذهبية والتفكك الشامل محليا وجهويا وإقليميا، ليس بغرض حماية ما تبقى من الثقافة الوطنية وإنما اتقاء حيرة العولمة والتخفيف من وقعها الجارف، والذي لا يتحقق إلا بإنجاز دراسات شاملة وتثمين تراث تلك العواصم القادرة نسبيا في حد من أخطار وسائل الدمار الشامل للعولمة. والذي لاشك في أن وفود الدول الإسلامية وغير الإسلامية المشاركة أو الشرفية في تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية ستقف على مختلف الملامح المعلمية والمعرفية للثقافة الإسلامية. الإرث المشترك بين تلمسان والأقطار العربية والإسلامية المتوسطية المتأثرة بثقافتها خاصة من خلال فكر مشاهير علماء تلمسان الذين أثرو الثقافة الإنسانية مثل: الابيلي في الرياضيات وابن الفحام في الهندسة وابن الحباك في الفلك وابن زكري في السياسة والسنوسي في التوحيد وابن مرزوق في الفقه وابن خميس في الأدب وعبد الكريم المغيلي في التصوف والإخوة يحي وعبد الرحمن بن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع. ومدى قدرة الجميع في التأثير والتأثر في الثقافات المتوسطية الأوروبية والإفريقية ذلك إلى الدور المعلوم الذي تأقت إليه الوافدة الروحية والجسدية والمادية لذلك السبق الأمازيغي الزناتي في نصرتهم للإسلام وحمل رسالته السماوية المقدسة وتبليغها بالدعوة الحسنة والذود عنها ورفع رايتها على يد القائد الأمازيغي محمد اث اوزمار الذي أسلم على يد الخليفة عثمان ابن عفان. تلك الفعاليات المعرفية والفكرية والأدبية والمعمارية والفنية التي تدخل جميعها في إطار الاستراتيجية الثقافية الجديدة للدول الإسلامية المشاركة في تظاهرة تلمسان ومواصلة عملها في توسيع دائرة حوار الحضارات والأديان ونشر رسالة السلم بين سكان المعمورة وفق المبادئ الحضارية الإنسانية.