لقد أصدرتم، مؤخرا، كتابا عنوانه ''فرنسا والفرنكو-جزائريين''، حيث خلصتم إلى اعتبار ظاهرة ازدواج الجنسية عاملا مؤثرا في العلاقة بين البلدين، فما معنى ذلك؟ لقد جاء هذا الكتاب نتيجة لما لاحظته عن الظاهرة الغريبة المتمثلة في حصول المنفيين والمبعدين، وبالأخص النخبة الجزائرية اللاجئة إلى فرنسا، هربا من بطش الإسلاميين خلال سنوات التسعينيات، على الجنسية الفرنسية في وقت قياسي، وهذا ما أسميته ب ''ازدواج الجنسية المعنوي''. فعلى العكس من المهاجرين الجزائريينبفرنسا الذين اختاروا كلهم الهوية الجزائرية سنة 1962 ولم يكن اكتسابهم للجنسية الفرنسية سوى تسوية لوضعيتهم الاجتماعية من تأمين وتقاعد، ولم يحمل هذا أي نية تجاه وطنهم الأم - ما سميته بازدواج الجنسية المادية - سارعت النخبة الجزائرية اللاجئة بفرنسا التي ترعرعت أغلبيتها الساحقة في عائلات بورجوازية صغيرة استفادت بطريقة أو بأخرى من الحقبة الاستعمارية، إلى إبراز نزعتهم وميولهم وحنينهم الفرنسي الذي وصل بهم إلى التفكير وإعادة النظر في القطيعة مع العهد الاستعماري، وهو ما كان يمثل خطا أحمرا لا يمكن تجاوزه سابقا. كما عمدت من خلال كتابي إلى البحث في الأسباب التي أدت بالجزائريين، بعد مرور خمسين سنة عن الانتصار والاستقلال الذي كلف الأرواح والدماء، إلى إهانة الهوية الجزائرية باعتناق جنسية المستعمر، وبالتالي خلصت إلى أن ظاهرة ازدواج الجنسية ستؤثر دون شك على العلاقات بين البلدين خاصة وأنها لا تتعلق بمجرد تسيير لملفات الهجرة وإنما تتعلق بالدرجة الأولى بكيان الدولة الجزائرية بصفتها دولة أمة. ولكن ما الداعي للحديث عن هذا الأمر بعد مرور قرابة الخمسين سنة عن استقلال الجزائر؟ من المهم أن نتكلم عن هذا الآن، وذلك نظرا لما يعرفه الوضع الاجتماعي المتردي في الجزائر. فمن جهة نجد ''الحراة'' الذين يقومون بإتلاف وثائق إثبات الهوية الخاصة بهم تعبيرا عن رفضهم لجنسيتهم ويفضّلون أن يكونوا طعاما للأسماك على أن يموتوا شهداء في وطنهم. ومن جهة أخرى، نجد النخبة التي تهاجر بحثا عن مناخ ومحيط ملائم لم يتوافر في موطنهم الأصلي، وهذا ما يدل على انهيار ''القومية المؤسساتية''. وعلى هذا الأساس عمدت إلى تشريح ما أسميته ب ''القومية المؤسساتية'' وقمت على ضوء ذلك بتحديد مراحل بداية تلاشيها لغرض فهم الانهيار المفاجئ للهوية الجزائرية المنبثقة عن اتفاقيات إيفيان، وهذا قبل أن أخوض في ذكر بواعث وانعكاسات ظاهرة ازدواجية الجنسية على المجتمع الفرنسي. وما قصدته من خلال مصطلح ''القومية المؤسساتية'' هو ما تم فرضه من قبل ساسة الجزائر المستقلة بعد انقلاب جويلية ،2691 الذي قام فيه جيش الحدود بتصفية ما تبقى من مقاتلي المناطق الداخلية، حيث سوقوا صورا خاطئة للقومية الجزائرية من خلال اعتبارها قائمة بذاتها خلال مختلف المراحل الاستعمارية (وهو الأمر الذي يختلف معه المؤرخ الجزائري محمد حربي) بالإضافة إلى اعتبار الأمير عبد القادر مؤسسا فعليا للدولة الجزائرية، وهو الأمر الذي لم يحدث لأن الدولة الجزائرية ولدت من رحم الكفاح من أجل الاستقلال. ناهيك عن اكتساب الشرعية باسم ''المليون ونصف مليون شهيد'' - وهو العدد الذي يبقى محل جدل باعتبار أن أغلب المؤرخين يحصون عدد القتلى والشهداء ب 300 ألف على أقصى تقدير- وذلك من خلال خطاب شعبي قائم تحت شعار ''الشعب، البطل من دون منازع''. والأكيد هو أن هذا الخطاب التفاخري الموجه لشعب ظل في حالة ترقب طيلة مراحل الحرب سمح بإدماج أولئك الذين كانوا على صلة وثيقة بالنظام الاستعماري. فبعد انقلاب 1965 كلف الرئيس بومدين جمعية العلماء المسلمين - وهي التي كانت تتجاوب تماما مع الإدارة الاستعمارية التي تأخرت كثيرا في الالتحاق بالحركة الوطنية - بتسيير الأجهزة الأيديولوجية في الدولة، الأمر الذي دفعهم إلى تزييف التاريخ القومي الذي لا زال يدرس في المدارس الجزائرية، وهو ما يفسر عجز الأجيال الشابة اليوم عن إدراك وفهم تاريخهم. إلا أن هذه القومية المؤسساتية لم تتمكن من الصمود طويلا جراء الهزات العنيفة التي أدت إلى تصدعها وانهيارها، وذلك جراء جملة من العوامل والأسباب من أهمها: 1 - ثورة المعربين (التعريب) سنوات السبعينيات، حيث اعتمد عليهم النظام ليكونوا بمثابة الجبهة الأولى في الدفاع عن الشخصية الوطنية، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في منافسة شرسة مع الفرانكفونيين الذين كانوا ولا زالوا يحظون بمناصب ومراكز حساسة ومهمة في الدولة. 2 - ثورة الربيع الأمازيغي سنة 1980 التي، وبالإضافة إلى كونها عبّرت عن مطالب الاعتراف بالكيان الأمازيغي في الجزائر، كانت السباقة للمطالبة بالديمقراطية. دون أن ننسى مظاهرات أكتوبر 1988 التي جاءت لتحدث القطيعة مع السيطرة المطلقة للنظام وقمعه للحريات السياسية. 3 - وأخيرا، بروز وتنامي قوة الجبهة الإسلامية FIS)) التي كانت تطمح لتأسيس ''الأمة الإسلامية'' على حساب ''الوطنية''، وهو ما أدى إلى تلاشي قومية الدولة. فمن الضروري الرجوع إلى هذه المحطات التاريخية التي ساهمت بقدر كبير في ما يعرفه اليوم المجتمع الجزائري من مظاهر عنف وانتحار وتعاطي للمخدرات واعتداءات، بالإضافة إلى التنامي الرهيب في معدلات الإجرام، وكذا انتشار ثقافة التخريب والشغب (1100 حالة شغب سنة2010) دون نسيان رغبة الكثير من الجزائريين في مغادرة وطنهم، وهذا ما يدل على ظاهرة التنصل وعدم الانتماء للمجتمع الجزائري. لنتحدث قليلا عما يميز الظرف الحالي من أحداث في كل من تونس ومصر، لقد عبرت -مؤخرا- عن عدم اقتناعك بتسميات ''ثورة الياسمين'' و''الشارع العربي'' و''الربيع العربي''، وذلك من منظور أنها لا تعبّر سوى عن ''رومنطيقية ثورية''، فبماذا تصفين الأحداث التي يعيشها العالم العربي حاليا؟ يعكف الكثير من الإعلاميين والجامعيين منذ أسابيع على تداول مفاهيم مثل: الشارع العربي والثورة العربية والربيع العربي.. وهي في حقيقة الأمر مجموعة من المفاهيم الجوفاء التي لا تدل على أية حقيقة أنتروبولوجية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى جيوسياسية. كما أنني قصدت من خلال عبارة ''رومنطقية ثورية'' التعبير عن تلك الصحوة المفاجئة لبعض المفكرين والمثقفين الفرنسيين الذين لم يكونوا آبهين بالممارسات التعسفية للأنظمة الحاكمة في الأوطان العربية التي لم تكن تعني لهم سوى أماكن للسياحة وقضاء العطل (أقصد المغرب خصوصا). وما ينبغي الإشارة إليه هو أن صمت المفكرين الفرنسيين تجاه ما يحدث في الأوطان العربية نابع من ارتباطهم بالماضي الاستعماري من جهة، وتخوفهم من تعاظم التهديد الإسلامي من جهة أخرى، وعليه فقد عملوا دائما على تكريس الأسطوانة المشروخة الداعية لعدم التدخل بين مطرقة الديكتاتوريات وسندان الإسلاميين طالما أن الأمر سيبقى على ما هو عليه، وهذا ما يعد إهانة للمناضلين الديمقراطيين العرب، ليتحولوا بعد ذلك إلى مناصرين لما تقوم به الشعوب العربية، واصفين ما يحدث بتسميات مختلفة على غرار ''العالم العربي'' الذي لا أستطيع استيعابه مطلقا. وعلى كل حال، فإن ما يجري في تونس ومصر لا يعبّر تماما عن ثورة شاملة تضم الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإنما هو مجرد انتقال ديمقراطي مثل ذلك الذي شهدته أمريكا اللاتينية والدول الشرقية، وهذا ما يجعلني أتردد في الحديث عن ''ربيع عربي'' بأتم معنى الكلمة. رغم أن الكثير من المحللين يتعجلون في تسويق فكرة انتقال النموذج التونسي إلى دول أخرى قد لا تتوافر فيها المعطيات والظروف التي توافرت في المشهد التونسي، وأدت إلى إسقاط النظام الديكتاتوري القائم على الترهيب والتخويف. كما أنني أتحفظ على استخدام مصطلح ''العدوى التونسية'' الذي ينم عن عدم تقبل الغرب لفكرة دمقرطة البلدان العربية، إلى درجة استخدام مصطلح مرضي للتعبير عن الحدث. وما ينبغي فهمه وإدراكه جيدا هو أن الحكم على نجاح الثورة التونسية لا زال مبكرا جدا في ظل عدم الغموض الذي يميز المشهد التونسي حتى وإن شكل سقوط نظام بن علي صدمة في المجتمع العربي، وأقلق أمثاله من الحكام العرب. هذا مع احتمال أن لا تتزامن الأحداث المتوقعة في البلدان العربية الأخرى مع ما يجري في تونس. انطلاقا من خبرتكم الواسعة في الإسلام السياسي والتيارات الإسلامية، هل تعتقدون بأن الإسلاميين في مصر - على العكس تونس - سيشكلون خطرا حقيقيا؟ إن النظام المصري يعتمد على سلطة مطلقة مدعومة بجهاز جبار خوّلت له حالة الطوارئ المعلنة سنة 1981 السيطرة على المجتمع والتحكم فيه بحجة الخطر الإسلامي المحدق. وعليه، فإن لم تتمكن المعارضة غير الإسلامية - التي لم تملك إلى حد الساعة قائدا يلقى الإجماع - من زعزعة النظام الحالي بشكل ناجع، فهذا يعني أنه سيعمل - بالتأكيد - على تبديل الرئيس بشخصية عسكرية أخرى ليس إلا، خاصة في ظل ما تتمتع به المؤسسة العسكرية من شعبية وحضور في مصر. أما عن خطر الإسلاميين فلا يمكنني أن أجزم بشيء، إلا أنني لا أتفق مع قراءات المحللين الذين يشبهون الإخوان المسلمين في مصر بالتيار الإسلامي في تركيا، حيث أن الدارسين والمتخصصين يؤكدون على أن الإخوان لم يغيروا شيئا من قناعاتهم بتوجهات سيد قطب (الذي تم إعدامه من قبل النظام المصري في فترة حكم عبد ناصر)، كما أنني لا أريد أن أستخدم عبارة ''الخطر الإسلامي'' لأن هذا المفهوم هو الذي دفع بالغرب إلى مساندة ودعم وحماية الأنظمة الديكتاتورية في البلدان العربية. والأكيد هو أن الإخوان سيقومون بدور محوري في رسم خارطة مصر المستقبلية. فالملاحظ من التركيبة الحالية للإخوان هو أنها تتشكل من اتجاهين إثنين؛ بحيث يمثل الاتجاه الأول أصحاب النزعة السياسية الطامحون لبلوغ السلطة، بينما يضم الاتجاه الثاني مناصري الأسلمة الشاملة الذين يتحينون الفرصة لتحقيق أهدافهم. وإلى ذلك الحين يبقى المستقبل المصري غامضا في ظل المعطيات التي لا تشبه تماما ما يميز المشهد التونسي.