أولا: في منهجية القراءة تواجهنا في قراءة هذه النصوص مجموعة من الأسئلة المبدئية لا يمكن تفاديها مطلقا، وهي أسئلة تمتلك مشروعيتها من مبدأ تفرضه الموضوعية· موضوعية القراءة، خصوصا عندما يكون المدروس يقع خارج حقل التداول المعرفي الذي يوحي به النص، أي لا يملك صفة الأديب، أو على الأقل هو غير معروف بها وإن الصفة المهيمنية هي صفة السياسي· كيف سيكون حكمنا لو كان النص لغيره، أي لشخصية تقع في حيز التداول· شخصية يومية لها اسم في سوق الأدب· هل ستكون القراءة في مثل هذه الحالة مشروطة بنفس الحيثيات ونفس الحذر· قراءة مثل هذه تضعنا أمام الكثير من الأسئلة والكثير من المزالق· شرطان يجب أن يتحققا في مثل هذه الحالة· (1) - أن لا نخل بحق النص وبحق الكاتب الذي يختفي وراءه· (2) - أن تكون مناسبة اللقاء فرصة السجال والمناقشة والحرية· ملاحظة أخرى تزيد هذا المشروع القرائي تعقيدا: النصوص التي بين أيدينا نضعها بدون أن نخل بحق القراءة الحيادية والعلمية· وهل هناك قراءة تمنحنا فرصة الراحة والصدق مع الذات· في هذه النصوص يتداخل فن القص بفن الديكتيك أو التعليم الواحد يتكئ على الآخر· وهو ما يعطى لنا مشروعية لهذه المساءلات· فالأجناس في اتكائها على بعضها البعض تقوم بعمليات الكسر والمحو· السؤال الثاني الذي يواجهنا بعد سؤال الشخصية المدروسة المثار في بداية هذا الحديث، يتعلق بالقارئ، أي من هو القارئ المفترض الذي تتوجه له هذه المجموعة من النصوص الأدبية؟ هل هو المالك للمعرفة العلمية العالية والمؤسس ثقافيا؟ هل هو الإنسان اليومي المنفتح على الرغبة الكبير في التعلم وتحسين ذوق التلقي؟ هل هو الإنسان الحالم أم الذي ضيع حلمه ويبحث عن بدائل له؟ الإنسان العاشق للريف والمدينة معا أو الرافض لهما معا؟ الإنسان الذي كره المدينة في معناها الاستهلاكي؟ المدينة كما تتبدى اليوم في الوطن العربي، والحالم بالهرب نحو طفولة صارت اليوم مستحيلة، نحو ريف لم يعد إلا فكرة لأن آلة الزمن غيرت هذا الريف وهذه القرية بحيث صارت تشبه المدينة من حيث الحركية والتسيير في مجتمعات عربية خاضة لأنماط خارجة عنها وعن تقاليدها الثقافية والعمرانية؟ إن طبيعة أو طبيعات القارئ / القراءة تحدد بالضرورة كيفية / كيفيات التلقى التي ليست دائما أمرا سهلا وأحاديا· القارئ المستعد لملء وترميم الكسورات الروحية التي خلقتها صيرورة الحضارات المتوحشة التي وضعت الإنسان في المرتبة الأخيرة من اهتماماتها أم القارئ المديني أو الريفي القادر على أن يجعل من (الديداكتيك) وسيلته المثلى للتعلم والتغيير· ثانيا: في قراءة النصوص في النصوص الأربعة الأولى التي يتحدد عنوان المجموعة من خلالها: المدينة·· القرية·· القرية·· الأرض·· الأرض·· وانتحار رائد الفضاء· انفتاح على نص موازي يحيل من خلال الأساليب التكرارية على تفضيل القرية للأرض، في وقت أن كلمة مدينة، ترد كعنوان بارد لا استمرارية فيه· كلمة تؤطرها التعريفية ونقطة النهاية· قراءة نص (المدينة) يعيد إلى الواجهة الأسئلة النصية التي طرحناها في مستهل هذا الحديث· النص يقدم درسا في تعرية المدينة وسلبياتها وكيف يجب رفضها، وهي مدينة بالمواصفات التي يقدمها بها الكاتب· مدينة موجودة في كل مكان ولكن موجودة خصوصا في الوطن العربي، حيث الفوضى والموت والعزلة وغياب الطبيعة· مدينة لا شيء فيها يستحق الوقوف عنده، أو كما يصفها النص نفسه· كابوس الحياة، حشر معيشي، المدينة المقبرة، التنكر للجار، الحياة الدودية، الاتساخ، المدينة دخان ورطوبة، المدينة طاحونة، كابوس، ظلام، بدون طفولة، يتجلى موضوع الديداكتيك في هذا النص، تنزع الغطاء عن آلية المدينة القاتلة، بحيث أن المكان الذي كان بالنسبة للريفي المقابل للألدورادو يصير في هذا النص جحيما غير مقبول· وإن الحلم كما تقول قصة (باولو كاوبلهو) ''الخيميائي'' قد يكون تحت أقدامنا، نتركه وراءنا بدون دراية منا· إذن المدينة التي يستهدفها النص هي مدينة خسرت روحها ومساحاتها الطبيعية وإنسانيتها· ليست بكل تأكيد المدينة الفاضلة بالمعنى السقراطي· ليست المدينة التي تتفتح على البحر، وعلى الغابات الجميلة· المدن التي تمنح الإنسان فرصة الحياة والفرح والتكون والعلم والمعرفة· مدن المسارح الكبرى ودور السينما الراقية· من الحياة، المدن النظيفة على الرغم من تعقدها· المدن التي يقصدها النص هي مدننا· النص يتوجه إلى الإنسان الحالم، إنسان كره شرطه الذي يحيط به· مدننا التي تفلت معها أسوا ما في القرى وأخذت من المدينةالغربية أسوأ ما فيها· مدن شيدت على مناهضة الحداثة وهي فيها وعلى مديح القدامة والنزعات البالية· المدن تشبه أصحابها· مدينة الجزائر مثلا: مدينة متوسطية جميلة مفتوحة على البياض وعلى الشمس الظللة للرؤى وعلى حدائق التجارب الخضراء دوما· المدينة النظيفة· المدينة المتفتحة على البحر وعلى مسارحها الذي استقبل فرقا غنائية وسمفونية ومسرحية لا تعد، يغازل السفن القادمة من بعيد ويودعها كل صباح ومساء· هذه المدينة بنيت في الأصل لغيرنا· لأننا عندما دخلناها من الأطراف القصديرية حملنا كل الأفكار المعتملة في الحي القصديري وصبغناها على المدينة· بعد أربعين سنة صارت مدينتنا تشبهنا· كما يصفها النص تماما من خلال النعوت التي ذكرتها سابقا، الكابوس، الحشر المقبرة، الاتساخ، الفراقة، الجريمة، الطاحونة، مدن لم نشيدها· نماذج عمرانية لم نبتكرها، وأجدادنا لم يكونوا عاجزين عن فعل ذلك· الأندلس وعمرانها دليلنا في ذلك· لكن النموذج الاستهلاكي مضاف إليه الجهل والأمية واليقينيات المقلقة جعلوا من المدينة فضاء من التخلف بدل أن يكون فضاء حضاريا· مكانا للخوف، بدل أن يكون مكانا للمتعة والراحة، مكانا للتسلط وفرض الهيمنة بدل أن يكون فضاء للعدل، مكانا للكره والضغينة والجريمة، بدل أن يكون فضاء للحب، هذه هي المدينة العربية وليست بكل تأكيد هي الصورة الوحيدة للمدينة بالمعنى الغربي· وإلا لن نكون صادقين مع أنفسنا· دخل نص المدينة ينزلق فقرة صغيرة عن القرية تبدأ هذا الشكل (أما القرية والريف فذلك عالم آخر، يختلف في المظهر والجوهر·· هناك لا ضرورة إطلاقا للقمع والزجر والضغط العكسي·· هناك تشجيع وتمجيد بالانطلاق والظهور الى النور·· هناك تحاكي الطيور والزهور في التحرر والتفتح·· لا شوارع·· لا قاذورات·· لا مجهولون·· كل أهل القرية والريف والنجع مترابطون حتى النهاية· تربطهم كل الوشائج المادية والمعنوية··) ثم يعود الكاتب من جديد الى توصيف المدينة بالتوازي مع القرية· هذه المفارقة تدخلنا في نص ثان يشكل نقيضا للنص الأول (المدينة) (القرية·· القرية··) هي دخول في عالم لا شيء فيه مشابه للمدينة، أي لا سلبية فيه، كل شيء حي وإيجابي وحيوي، يتم توصيف القرية بالمفردات التالية: الحب، الهدوء، النظافة، الترابط الأخوي والعائلي والقبلي، غياب الأمراض الاجتماعية المختلفة، البساطة، التواضع، القناعة، هدوء المزاج، تنظيم الشهوات، حرية الحياة، نقاء الطبيعة والهواء وغيرها من الصفات الإيجابية· وكما قلت قبل قليل، المدن تشبه أصحابها، القرية كذلك تشبه سكانها· القرية هنا في هذا النص، الحلم الأول· طفولة الإنسان العفوية، شعره وحلمه الذي لا يموت أبدا· الإنسان عندنا في الجزائر وأقصد ساكن المدينة، عندما يشيخ يتمنى أن ينهي أيامه في قريته حتى ولو كان في كبريات المدن· وعندما يصادق ويموت هناك يوصي بنقل جثمانه إلى أرضه الأولى· العودة هنا، هي رفض للعزلة وبرودة التجاهل، العودة إلى نقطة البدء· الطفولة التي تظل بالنسبة لكل واحد منا، حلمه الأبدي الدائم الذي لا تشوبه شائبة· تبدو القرية في هذه الحالة فسحة للأمل الأخير وملمسا حريريا دافئا· لا يموت، لكن خارج هذا الحلم الذي نعيشه كحالة خيالية أكثر من كونها حالة مادية، كيف تتبدى القرية اليوم إنها تشبه المدينة في ركض الناس اليومي، في البنايات الإسمنتية الجافة، في الكذب والجريمة، في الخداع والسرقات، في الشوارع والأزقة، القرى لم تعد كما كانت بعدما تفككت النظم الترابطية القديمة· قرانا كذلك صارت تشبهنا· ومع ذلك يظل الأنصات إلى الحلم الإنشائي أمرا مهما، عندما نقطع علاقتنا بالحلم تتضاءل فرص الحياة والنور·