عرفت إبراهيم سعدي قبل ثلاثين سنة، كان ذلك بجامعة تيزي وزو حيث درّسنا معا قرابة ستة وعشرين سنة· كنا في تلك الأجواء الأدبية التي جمعتنا، أنا ومحمّد ساري وعبد الحميد بورايو وأحمد منّور ومصطفى صواف (الذي هاجر إلى الولاياتالمتحدة) وعثمان حشلاف رحمه الله الذي كان يكتب الشعر، وكان نابغة في اللغة العربية، إضافة إلى أحمد خياط والمترجم محمّد يحياتن: وكانت هناك زيارات الأعرج واسيني وأصدقاء آخرين يسهمون في نقاشات فنية ولغوية وأيديولوجية وجمالية في بيت من بيوت المدينة الجديدة· لماذا إبراهيم سعدي؟ لأننا أغفلنا هذه الكفاءة المتعددة الأبعاد· أذكر، كما اليوم، أني وجهت له نقدا بعد رواية ''المرفوضون'' ولم يستسغ ذلك· كان في الثلاثين تقريبا، وكنت أصغر منه ببضع سنين· ثم تلاحقت أعماله بشكل مغاير، وظللت قريبا منه، أقدّم ملاحظات في حدود إدراكي للعمل الأدبي، لكني لم أعد أمام ذلك الذي كتب ''المرفوضون''، بل أمام شخص آخر، أكثر تواضعا وأكثر انمحاء، خاصة بعد أن شحذته التجربة وقوّضته الأمراض والقلّة· قرأت له لاحقا النخر وفتاوى زمن الموت وبوح الرجل القادم من الظلام (الفائزة بجائزة مالك حداد) وبحثا عن آمال الغبريني ورواية الأعظم الصادرة عام 2010 بدار الأمل، وقبلها صمت الفراغ· مع الوقت تركت مدينة تيزي وزو وذهبت إلى خنشلة، منفاي الاختياري، وأي منفى تعيس في جامعة·· لكني التقيت به في مناسبات كثيرة وكان عليلا ووحيدا كذئب البوادي، لقد تغير جذريا من حيث الكتابة والطرائق السردية تحديدا، لكنّه غاص كذلك في ما يشبه البؤس والعبث والسديم واللاجدوى· أعود قليلا إلى الوراء وأتذكر جلساتنا في ''المقهى الملكي'' كلّ مساء، أحاديثه الفلسفية وتشاؤمه وإحساسه بأنه على حافة القبر، قريبا جدا من الموت· وكنت أرفع من معنوياته بمعنوياتي المنهارة لأني كنت مثله، مشتلة للأمراض والقلق والأدوية· في تلك الفترة اخترناه في اللجنة العلمية للملتقى الدولي عبد الحميد بن هدوقة كقلم يستحق نيل جائزة الرواية· وكان الأمر كذلك· كنا مقتنعين بطاقته الإبداعية، ناهيك عن كتاباته الصحفية ودراساته الأكاديمية وترجماته، وكان سعيدا جدا بهذا العرفان، مع أنه ظل يردد بأنه ليس في مستوى هذه الجائزة، يقول ذلك عن قناعة، وبحياء نادر· كنت قد وعدت الصديق إبراهيم سعدي بأني سأكتب شيئا عنه، دون أية مجاملة، تقديرا لمجهوداته ولتواضعه، وتنويها بقدراته الإبداعية التي لا تستحق هذا التنكر الناتج عن أسباب، اللوبيهات ورؤوس الأموال والمعارف والعلاقات ''المهمّة''· أجد كتابات هذا الروائي ممتعة وراقية، مع أني أختلف معه في بعض التوجهات، كما أختلف مع آخرين ويختلفون معي، لكنّي أعترف أنه انتقل من النقيض إلى النقيض وأصبح يكتب روايات مدهشة، سواء كانت تركز على موضوعات ''بسيطة'' أو''معقدة''، وإحدى هذه الروايات الجميلة والاستثنائية، من حيث السرد والرؤية، هي فتاوى زمن الموت التي عالجت محنة الجزائر بعبقرية، وبحكمة الفيلسوف (الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من إحدى الجامعات الفرنسية)، لكنها فلسفة لينة ومدركة، بسيطة ومسؤولة، وأهم ما في الرواية، من منظوري، قدرة الكاتب على تقديم شخصيات بليدة، على شاكلة تشيخوف، ومن ثم التخلص من الشخصيات الاستعلائية التي يمثلها المثقفون في معظم روايات العشريتين الأخيرتين، علينا أن نقرأ هذه الرواية من تموقع آخر لندرك قيمتها الأدبية والتاريخية· كما أن رواية ''بحثنا عن آمال الغبريني'' لا تقل شأنا على عدة أصعدة، ولا يمكننا تجاهل قيمتها لأنها مثيرة ومأسوية· إني أشبهها، في جزء منها، برواية ''لا أحد يراسل الكولونيل'' لغابريال غارسيا ماركيز، رغم اختلاف الموضوعات· هناك في جهة ما من جهات هذا النص قضايا لا يمكن القبض عليها بمناهجنا الحديثة لأنها ستشوهها وأعتقد أحيانا، أن علينا أن نقرأها كما قرأ هنري ميللر أشعار أرتور رامبو في كتابه الشهير: ''رامبو وزمن القتلة'' لأن هذه الرواية من هذا النوع المربك الذي تقهره بعض الأكاديميات المفرطة في الشكلنة· قد لا أخطئ إن اعتبرت هذه الرواية من أجمل الروايات التي فلتت من الأدلجة المقيتة، هذه الآفة التي تقضي على الجمال، وخاصة في شكلها المباشر الذي يرتبط آليا بالمحيط الخارجي· هذا النص ''الهادئ'' ظاهريا، صاخب جدا في أبعاده ودلالاته، كما ''صمت الفراغ''، الرواية الأخرى التي كتبها إبراهيم سعدي بيقظة، وبصمت تملأه العلامات بشحنات أخرى، غير التي تتجلى من خلال العنوان· أما بوح الرجل القادم من الظلام فتجربة أخرى، ليست أهم تجربة في اعتقادي، لأن كتابات هذا الروائي تنم عن طاقة على تجاوز الذات باستمرار، ولكل رواية أثاثها ومواطن جمالها وعوالمها وقدراتها المختلفة· وإذا تركنا الموضوع جانبا، فإن بنيتها الزمانية هي التي جعلتها مختلفة من حيث أن الكاتب أسس على التصدع، لذا غدا النص نثارا، صدوعا يصعب على القارئ إعادتها إلى أحاديتها، بنقلها من زمن القصة (كمتخيل) إلى زمن الحكاية (كواقع افتراضي)، الشيء الذي لم يوله أهمية كبرى في فتاوى زمن الموت التي ركز فيها على عنصر المكان، بوعي وعبقرية فذة، كما فعل الطاهر وطار في ''الزلزال''، مع أنه لا توجد أية علاقة مجاورة بين هذه وتلك، لقد كان لكل منهما تصوره، وقد كان المكان عند إبراهيم سعدي، وتحديدا في هذه الرواية، شخصية من الشخصيات، بدوالها ومدلولاتها، بحالاتها القارة وبانزلاقاتها وحركياتها وببطاقاتها الدلالية المميزة· وقد تذكر رواية الأعظم بملحمة جورج أورويل التي تحمل عنوان 1984، دون التأكيد على التناص الخارجي، تفاديا لسوء الفهم، أو لأي تأويل آخر لا أقصده بتاتا، إنما الأعظم، الموجود في كل زمان وفي كل مكان، هو صورة للأخ الأكبر، وما أكثر الإخوة الكبار في عالم مفلس ومستبد· أكانت هذه الرواية استباقا؟ قد تكون كذلك، وإذا أكدنا على التكوين الفلسفي والاجتماعي للكاتب عرفنا الأسس والنتائج وأهم المسارات التي ميزت النص كتجربة أخرى لها منطقها، دون أية مفاضلة بين الروايات، على تباينها موضوعيا وسرديا وأسلوبيا وبنائيا· ثمة تنويعات مستمرة، متغيرات لا تنتهي ورؤى متحولة من عمل إبداعي إلى آخر، وبقدرة لافتة لا يمكن ملاحظتها، إن تعاملنا مع هذه النصوص باحترافية، ولو نسبية، والحال أن الكاتب يتخذ هذه المتغيرات موضوعا له، كباقي الموضوعات والحكايات، تفاديا لتواتر أشكال القول، وهي سمة بارزة في إبداعات سعدي· ومع ذلك؛ لا أدري أي شيطان أعمى بصيرتنا وجعلنا لا ننتبه إلى مؤلفات هذا الكاتب، كما فعلنا مع كتاب آخرين لا يقلّون أهمية؟ هل أصبح النقد قاصرا إلى هذه الدرجة، أم أن هناك مضمرات تتحكم في الأدب وفي آلياته؟ المؤكد أن النقد ليس سويّا، ولا بد أنه ينشط في عتمة الدهاليز متخليا عن شخصيته وعن وظيفته العلمية، وإذا حدث أن أعاد إليه بعض الوعي فإنه سيعيد النظر في قدرات تلقيه وإدراكه، لأن واحدا مثل إبراهيم سعدي، بتواضعه الخرافي وثقافته الكبيرة، يستحق أن نقرأه جيدا ونعتني برواياته، كما نفعل ذلك مع آخرين· ومع أن الصديق إبراهيم لا يتحدث عن نفسه أبدا، ويعتبر نفسه دخيلا على الأدب، ومتطفلا على الآباء فإنه يكتب بوقار في عالم صاخب، دون ادعاء ودون جلبة، يستمع ولا يتكلم، وإن تكلم فبهدوء وتردد، ليست له يقينيات ولا علاقات ''مهمة جدا''، كل ما يملكه مجموعة من الأمراض، ومجموعة من العلامات التي يقضي معها وقته، يتساءل دائما، ودائما يستحي من نفسه محاولا أن ينزع عنه صفة الكاتب الذي يراه أكبر منه· لقد حاولت مرارا أن أقنعه بأن يكتب جيدا، وأنه أفضل من الصورة التي كوّنها عن نفسه، لكنه ظل يدافع عن فكرته ''أنا مجرد كاتب صغير وفاشل''· وليكن، أنت كاتب فاشل تعجبني كتاباتك وأتمنى أن تبقى فاشلا دائما لأستفيد من فشلك الجميل الذي يعرف العربية جيدا، كما الفرنسية والأمازيغية وعلم الجمال والفلسفة وعلم الاجتماع· سأعود لاحقا إلى كتاباتك السابقة، وإلى ما سيأتي من كتابات فاشلة، وباحترام كبير، لأن فشلك من النوع الجيد، من ذلك النسيج المتميز الذي يثير الفضول والدهشة· إنه فشل أفضل من نجاحات كثيرة سيضعها الوقت في مكانها الحقيقي اليوم أو غدا، أو بعد غد· لقد قلت لك قبل سنين: لا تفكر إطلاقا في ما تريد أن تفعله· قد تحتاج إليك نملة أو نبتة ويحتاج إليك قراء كثيرون لا تعرفهم· هؤلاء الذين يقدرونك حق قدرك لأنك أهل لذلك، كما بعض المهمّشين والمنسيين في سياقات أرادت أن يكون ذلك كذلك· وما أكثر هذه السياقات التي تجعل من الغراب حمامة ناصعة الوهم·