عاد إلى الخشبة بعد خمس وعشرين سنة من الغياب، عاد ليروي خيبات أجيال بأكملها، سواء غاب أو غُيب ''قدور البلاندي'' ها هو يعود، أقوى من أي وقت مضى، أكثر جرأة وتوقدا، وأكثر واقعية ومواجهة، ''قدور البلاندي'' الذي عاصر نكسات الجزائر المستقلة كلها، عاد ليرويها في مونولوج ''قرين'' الذي عرض شرفيا لأول مرة في افتتاح المهرجان المحلي للمسرح الجهوي لسيدي بلعباس في دورته السادسة. قرائن ذاكرة الشخوص يعود ''البلاندي'' (احميدة عياشي) إلى طفولته، إلى الأب والأم، إلى الإخوة الأحياء منهم والأموات، إلى الخالة والعمة والجدة، إلى المعلم... يستذكرهم في لحظة استحضار للطفل ''قدور''، الطفل المتمرد الذي يرفض أوامر الوالد بتنظيف ''الكوري'' (الزريبة) بشكل يومي، الطفل الرجل الذي يرفض الذهاب إلى حمام النساء مع العمة مريم، الطفل المتدبر الذي لا يحب قراءة ''الطُلبة'' للقرآن بتلك الصورة السريعة، الطفل الذكي الذي لا تعجبه طريقة تلقين المعلم للحروف. الطفل الهارب إلى النجوم والأقمار، كائنات لا تخدع، ولا تمن بضوئها ونورها على أحد، يجلس أمام نافذته المفتوحة على السماء، ولحظات مهربة من ساحات ''بلعباس''، حيث الموسيقى الصوفية وفرق العيساوة. قرائن ذاكرة الأمكنة ''قدور'' الطفل لم يكن يعني له الحائط المقابل لبيتهم العشوائي الكثير، قد كبر الآن ومعه كبر معنى الحائط الأصم، يستذكر بيته الذي هدم من طرف السلطات المحلية، لفائدة إنشاء مشروع الطريق السيار، لم يبق من شواهد عن الحي الذي كان يقطن فيه سوى الحائط المتحدي للوقت والنكسات بمختلف أنواعها، الحائط المستقبل بهدوء تام لكل الشعارات المدونة عليه، من ''الجزائر فرنسية'' إلى ''تحيا الأفلان'' إلى ''سبع سنين بركات'' إلى ''الشاذلي مجرم'' إلى ''لا ميثاق لا دستور''، الحائط الساكت لم يعلن رفضه يوما، ولن يعلنه أبدا. الكرسي.. الحمار.. والشكوى يبحث ''البلاندي'' عن المسؤول المنوط بتلقي شكواه بخصوص البيت المهدم، لا يجد سوى الصحافة الصفراء تدفعه إلى الحديث عن الخير العام المعمم على الجميع، وبعد انتهاء جلسة المدح يعود إلى حالة الخيبة، حالة البحث عن المسؤول، عن رجل يتفهم معاناة مواطن شُرد بإمضاء. الرجل غائب، ونصف الرجل غائب، والحجر يتهرب من تلقي الشكوى خوفا من أن يتفتت لقسوتها، أما ''الكلبة'' ترد بالنباح الغاضب على معكر مزاجها الرائق. الحمار هو الكائن-الشخص الوحيد الذي يقبل بعقد صفقة، مفادها استعداده لسماع شكواه مقابل أن يركب الحمار قدور. المنطق المقلوب لا يهم في حالة ''البلاندي'' الذي لا يتحمل وزن الحمار، فيسقط أمام الكرسي الشاغر. الكرسي الذي سبب الصراع حوله مآسي ''قدور'' وأمثاله، وحينما يستفيق يتوهم أنه قد رحل عن الدنيا، ويسعد لأنه وجد بين الأموات من هم مستعدين لسماعه. الرهان اللغوي حاضر هواجس ''احميدة عياشي'' في الاشتغال على اللغة، صاحبته في أعماله الروائية، وانسحبت على أعماله المسرحية. وإن كان الفصل بين الروائي والمسرحي صعبا، إلا أن لنص ''قرين'' خصوصية تمثلت في الإنطلاق من ''الفصحى'' كعتبة دخول إلى العمل، في لغة عبثية تجسد حيرة ''قدور البلاندي''، الرجل الخمسيني المتصارع مع الوقت الهارب من بين يديه. يكلم ''البلاندي'' الزمن ككينونة تملك حاسة الإنصات، وإن كان منخرطا في هذيان، لا يجعله يعبأ كثيرا إن كان متلقيه ينصت أم لا. وفي لحظة معينة تبدأ الصدمات تتوالى على المتفرج، حينما تقحم بشكل مفاج كلمات دارجة محلية جدا، وقبل أن يخرج المتفرج من حالة الدهشة، يجد نفسه يسترخي تدريجيا في الانتقال إلى الجزء الثاني من العمل المكتوب بالدارجة. وقد استطاع احميدة عياشي كممثل، أن يدخل الجمهور كطرف في العرض، بالإيحاءات السياسية التي كان يطرحها، من خلال الحروف الأولى لأسماء بعض السياسيين، التي كان يتفاعل معها الجمهور بالتخمين، كما شكل الجمهور خلفية موسيقية للحن بسيط أطلقه الممثل صوتيا، وتابعه الموسيقي ''بسطام العربي'' بالغناء والعزف. وشارك في الرد على استفهامات طرحها الممثل أثناء العرض، كما ساعده في البحث عن شخوص غابت عن الخشبة.