شريعة الإسلام شريعة يسر لا تعقيد فيها ، شريعة الوسطية في الأمور كلها، فقد جاءت ببيان ما تصلح به أحوال العباد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تشديد، وإنما الاعتدال والتوازن والرفق والقصد في الأحكام كلها. ومن وجوه الرفق والقصد في هذه الشريعة أنها راعت ظروف المكلفين وأحوالهم، فشرعت لهم من الأحكام ما يستجيب لظروفهم وأحوالهم، بل إنها فوق ذلك، راعت همم المكلفين، ولاحظت أن تلك الهمم ليست متساوية، وأن نشاطها للأمر يختلف من حال إلى حال، ومن مكلف لآخر. والنيابة في الحج جزء من سنن هذه الشريعة، جعلها الله مخرجاً لعباده الذين عجزوا عن أداء فريضة الحج لسبب أو لآخر، وفي هذه العجالة نحاول أن نذكر أهم الأحكام المتعلقة بمسألة النيابة. مشروعية النيابة في الحج دلت الأحاديث على مشروعية النيابة في حج الفريضة، منها حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، فقال: من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟، قال: لا ، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة، وقال ابن حجر في الفتح: سنده صحيح، والحديث صريح في جواز النيابة في الحج. شروط صحة الإنابة في الحج لا بد لصحة العبادات الشرعية من أن تستوفي شروطاً معينة، وإلا لم تكن صحيحة، والنيابة في الحج من هذا القبيل فلا بد لصحتها من مراعاة شروط معينة، بعضها يتعلق بالمنيب وبعضها يتعلق بالنائب وفيما يلي بيان ذلك: الشرط الأول: أن تكون النيابة عن شخص عاجز عن أداء الفريضة عجزاً مستمراً لا يرجى زواله لمرض أو كبر، أو تكون عمن مات وقد وجب عليه الحج لتمكنه من أدائه فلم يحج، أما دليل النيابة في الحج عن العاجز عجزا مستمراً فهو أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: نعم) متفق عليه، ودليل النيابة في الحج بعد الموت، ما رواه مسلم عن بريدة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج؟ قال: حجي عن أمك). الشرط الثاني: أن يكون النائب ممن يجزئه حج الفرض لو حج عن نفسه، فلو أناب عاجز عن الحج صبياً لم يجزئه، لأن الصبي لو حج لم يسقط عنه فرض الحج. الشرط الثالث: أن يكون النائب قد حج عن نفسه أولاً، فإن لم يكن قد فعل فلا تصح نيابته، وعلى هذا فلو أناب العاجز عن الحج من حج عن نفسه سابقاً صحت النيابة، ولو أناب العاجز فقيراً صحت نيابته أيضاً، لسقوط فرض الحج عن الفقير، ويدل لهذا الشرط حديث ابن عباس - رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، فقال: (من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟، قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود، وصحح سنده ابن حجر. ويصح أن ينوب الرجل في حج الفريضة عن المرأة والعكس لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأة قالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) متفق عليه، فأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمرأة أن تحج عن أبيها. هذا ما يتعلّق بأحكام الحج عن الغير، والله الموفق. الحج ووحدة المسلمين الاجتماع والاتفاق سبيل إلى القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق إلى الضعف والهزيمة، وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بالوحدة والتلاحم بين أفرادها، وتوحيد جهودها، والتاريخ أعظم شاهد على ذلك، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- تدعو إلى هذا المبدأ العظيم، وتحذر من الاختلاف والتنازع ومنها قوله تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال 46)، وفي حديث أبي مسعود: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) رواه مسلم . والحج موسم عظيم، تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها وأجمل حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل، يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح. فيجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول هذا البيت العتيق، الذي يتجهون إليه كل يوم خمس مرات، البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم في بلادهم الشاسعة البعيدة، ها هم الآن يجتمعون حوله ويرى بعضهم بعضا، يتصافحون ويتشاورون ويتحابّون، خلعوا تلك الملابس المختلفة والمتباينة من على أجسادهم، ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، وصفاء الظاهر مع صفاء الباطن. إنها لحظات رائعة جميلة وهم يتحركون جميعاً من منى، ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة وقد اتحدوا في المكان والزمان واللباس والوجهة. إنّ مظاهر الوحدة في موسم الحج متعددة وكثيرة، منها: - وحدة الزمان والمكان، فالحج له زمان ومكان محدد يؤدى فيه لا يجوز أن يكون في غيره، قال تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة 197)، وقال - صلى الله عليه وسلم - ( الحج عرفة) رواه الترمذي. - وحدة المناسك، فالجميع مطالب بأداء مناسك الحج، من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار... وكلهم يقومون بنفس الأعمال مما يجسد ويعمق هذه الأخوة والمحبة. - وحدة الهدف والغاية والشعور فالجميع قد جاؤوا من كل فج عميق، يحدوهم الأمل، ويحفهم الخوف والرجاء، رافعين أكف الضراعة إلى الله -عز وجل-، راغبين في مغفرته طامعين في فضله ورضوانه. فالقِبلة واحدة، والربُّ واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، وكل هذه الأمور تجتمع في هذا الموسم المبارك، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة لتعزيز التآخي، والتعارف بين المسلمين، ومشاطرة الآلام والآمال، والتعاون على مصالح الدين والدنيا. تلك لمحة سريعة، وإطلالة قصيرة على هذا الموضوع المهم الذي يشغل بال كل مسلم، حيث يتطلع الجميع إلى العهد الزاهر الذي يجتمع فيه أصحاب الدين الواحد، ليكوُّنوا الأمة الواحدة التي ترفعهم فوق الأمم، وتعيد لهم الريادة والسيادة التي ضاعت من أيديهم بسبب الفرقة والنزاع والله غالب على أمره: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور 55). ولله على الناس حج البيت قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (آل عمران:97)، بدأ سبحانه هذه الآية والتي قبلها بالحديث عن محاسن البيت، وعظيم شأنه؛ ترغيبًا للنفوس إلى قصده، وشد الرحال إليه، فذكر سبحانه أنه أول بيت وُضِعَ للناس، وأنه مبارك، وأنه هدى للناس، وأن فيه آيات بينات كثيرة، كمقام إبراهيم عليه السلام، وأنه مكان آمن للناس. وبعد بيان منزلة هذا البيت المبارك، أعقب سبحانه ذلك ببيان حكم هذه العبادة، فقال: {ولله على الناس حج البيت} بهذه الصيغة الدالة على الوجوب بأكثر من وجه، ذكرها المفسرون. وقد أجمع العلماء على الاستدلال بهذه الآية على وجوب الحج، وأجمعوا كذلك على أن الحج واجب في العمر مرة على من ملك القدرة عليه، وإن اختلفوا في أن الوجوب هل هو على الفور، أو على التراخي، كما سيتبين بعدُ. روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟! فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعجلوا بالحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)، وفي رواية أخرى له: (من أراد الحج فليتعجل). وفي أَثَرٍ صح سنده إلى عمر رضي الله عنه، قال: (من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً) ولم يصح بهذا المعنى حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال العلماء: و(الاستطاعة) على نوعين: استطاعة بالنفس، وهي قدرة الإنسان على أداء فريضة الحج بنفسه، من غير أن يعهد بها إلى غيره. واستطاعة بالغير: وتكون عندما يعجز الإنسان عن أداء هذه الفريضة بنفسه، فيعهد بأدائها إلى غيره؛ يشهد لصحة هذا النوع، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع، فقالت: إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفيُجزىء أن أحج عنه؟ قال: (نعم، حجي عنه، أرأيت لو كان على أبيك دين أكنتِ قاضيته؟) قالت: نعم، قال: (فدين الله أحق أن يُقضى) متفق عليه؛ وهذا الحديث أصل في مشروعية النيابة في الحج عند العجز. وقوله تعالى: {من استطاع إليه سبيلا} للعلماء أقوال في تفسير (السبيل) الوارد في الآية؛ فقال ابن عباس رضي الله عنه: (السبيل) مِلْك الزاد والراحلة. وعلى هذا، فإذا كان المسلم مالكاً لما يوصله إلى أداء فريضة الحج، وكان مالكًا كذلك لما ينفقه على حاجاته، من طعام وشراب ومسكن زائداً عن حاجة من يعولهم، فقد وجب الحج عليه، وإلا فهو غير مالك للسبيل. وقال عكرمة: المقصود ب (السبيل) الصحة، فإذا كانت صحة الإنسان لا تمكِّنه من أداء فريضة الحج، فهو من الذين لا يملكون السبيل. وقال مالك: (السبيل) القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجَلَدِهِم. قال أهل العلم: جاءت كلمة (السبيل) في الآية نكرة؛ لتفيد أن الحج واجب على المسلم، على أي سبيل تيسرت، من قوت ومال. وحاصل تلك الأقوال، أن المقصود ب (السبيل) أن يملك من يقصد الحج من الوسائل المادية والمعنوية ما يمكنه من أداء تلك الفريضة، من غير أن يفوِّت واجباً عليه، كواجب النفقة على عياله، ونحو ذلك. وللعلماء تفصيل في هذه المسألة، ليس هذا مكان بسطه ثم إن ظاهر الآية أنه إذا تحققت (الاستطاعة)، وجب الحج على الفور، دون تأخير، وهذا ما أجمع عليه جمهور أهل العلم. وقال الشافعي: إن الحج واجب على التراخي، بمعنى أن الحج لا يجب وقت الاستطاعة، بل يمكن تأخيره لفترة، لكن يُكره التأخير لغير حاجة، لأن المسارعة إلى الطاعة أولى وأثوب. وقوله تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} بيَّن سبحانه في خاتمة هذه الآية أنه غنيٌ عن عبادة عباده، وأنه تعالى لا حاجة له إلى حج أحد، فهو الغني الحميد، لا تنفعه طاعة مطيع، ولا تضره معصية عاص. وفي الآية ما يُشعر بمقت الله ووعيده لكل من تنكَّب طريق الهداية والرشاد، وأعرض عن شرعه سبحانه. أخطاء في ركعتي الطواف 1- اعتقاد لزوم أداء الركعتين خلف مقام إبراهيم مباشرة أو قريباً منه، والمزاحمة للصلاة عنده، مع أن صلاة ركعتي الطواف عند المقام سنة، إن تيسرت فبها ونعمت، وإلا جاز أن تصلَّى في أي موضع من المسجد الحرام. 2- إطالة الركعتين بعد الطواف، والسنة التخفيف، فقد صلاهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ في الركعة الأولى: {قل يا أيها الكافرون} وفي الركعة الثانية: {قل هو الله أحد} بعد قراءة الفاتحة في الركعتين. 3- ومن البدع ما يفعله البعض بعد ركعتي الطواف، حيث يقوم عند المقام، فيدعو بدعاء يسمَّى “دعاء المقام"، وهذا الدعاء لا أصل له في الدين. 4- قيام البعض بصلاة أكثر من ركعتين للطواف، وهو خلاف السنة.