«بستان الغزال المرقّط" كتاب يجمع أربعة كتب قصصية “لعبة مفترق الطرق" و«عسل اللقالق" و«منامات شجرة الفايكنغ" و«الحديقة اليابانية"، والمجموعات المذكورة هي تجربة الكاتب المغربي إسماعيل غزالي. العناوين كعتبات نصية تختزل النصوص، وكل نص تنسجه مخيلة خصبة تتهيكل مشاهدا تنزاح وتزيح لتتبنيّن نصوصا تحتفي بالعجيب الذي يظل مثيرا لشهية اكتشاف الحياة ودافعا للتناغم مع الطبيعي... عجيب موصول بالواقعي وبالسيرة، وصلا امتلك غزالي شيفرته وبرع في حبكه. يمتد عبر العناوين والتيمات الارتداد للطبيعي وإعادة تقمصه وتمثله للانبعاث به ومعه بحكايات تتناسل وتتلولب وتمتد في متاهات تقول الحكاية المحبوكة بالحلم وبالذاكرة، تمتد لاجتياز مضمارات المجاز الذي يحتوي ما يسمى حياة. ترحل بنا النصوص عبر مدارات مختلفة، وتبدع لتنتج المؤتلف في المختلف... يصلنا غزالي بالوجودي، يصلنا به اقتحاما للمجاهيل وزعزعة للثابت المستقر في العابر والمرئي. من نص “ولع الفراشات" إلى “الحديقة اليابانية" يحرث غزالي أرض اللغة ويؤثثها مباهجا تتبنيّن بستانا من فاكهة الكلمات... يمتد النص متعددا، يحاور ويتناص، ينتقل عبر التضاريس ويتاخم العوالم ويقتحم المجاهيل... يمتد ليقول المعنى الممتنع على التقولب وعلى الضبط، المعنى الممعن في التخفي، تخفيا يظل مثيرا لشهوة هتك الحجب، شهوة كلما تأججت تدفقت الحياة. الشبكة الدلالية في نصوص غزالي، شبكة مشحونة بالصور التي تأخذنا في تياراتها لتبقينا في حالة وجد وجذب بما يسكنها من إيقاعات تلتبس بالكلمات، وكلمات غزالي صورا وايقاعات تحقق سحر الحكي، الحكي المحرك للمخيلة المبدعة للحياة. النصوص تستحضر أسماء ومعالم، تستحضر بصياغة أخرى، صياغة مبدعة لوجود يخترق التنميط والتحديد، وجود مقامه الكون كله وحدوده هي اللاحدود.. تناصات تنبض بالحلول في الحال البهي للوجود. مع التناصات ينسج إسماعيل غزالي ما عبر عنه الكاتب أحمد بوزفور ب “التصاقع" ويوضح ذلك قائلا: “وإذا كان التناص حوارا منتجا بين النصوص المختلفة، ومن خلالها بين الثقافات المختلفة، فإن التصاقع حوار بين الأصقاع المختلفة في الجغرافيا: في الجو والحرارة والغطاء النباتي والمياه والأحجار والطيور، وفي الأضواء والألوان والأصوات والروائح والأطعمة والأشربة... ثم داخل هذه الأصقاع هو حوار بين أحاسيس الناس المختلفين وسلوكاتهم هنا وهناك". النص في انزياحاته وإزاحاته يحمل هواجسا هي ما تشكل من خبرة الكاتب فكل نص هو عصارة ما يمتصه الناص... وفي كل نص من نصوص مجموعة “بستان الغزال المرقّط" يرتد السارد إلى نبع الطفولة أو إلى قاع النفس، ويعيد تشكيل العالم والمعالم بنظرة عين أخرى، عين تبصر بمخيلة تنزاح لتتحرر من قيد واقع ومن محو العابر. الذي يشد في نصوص غزالي هو هذا الاستحضار للطبيعة التي تحيط بنا ولبعض الكائنات الحيوانية التي تعيش بجنبنا أو في محيطنا، الطبيعة والكائنات تمتلك روحا وأحاسيسا... هي جزء محوري في وجودنا وفي صياغة هويتنا، لكننا نغفل ذلك فنفقد ما يحقق فهمنا لوجودنا ويفقدنا القدرة على التواصل وبدون التواصل تنعدم الحياة التي هي أساسا تواصل، وأساس التواصل لغة، لغة لها مستويات متعددة عروجا محلقا وغوصا حافرا وتمشيطا مقتحما. غزالي أبدع في هندسة عالما سرديا بلغة تبلور قاموسها تبلورا بستانيا. الحدود تتبدد وتتماهى في ما بينها، تتداخل الإشارات والعلامات فيحبل الواقعي بالمتخيّل ومن المتخيّل يندفع الواقعي... الواقعي ما نتصوره والمتخيّل ما يختمر بالواقعي فالمحصلة كل الأمر تصور وتمثل. في نصوص غزالي يأتلف المختلف وتتشابك العلاقات والتمظهرات، فالفراشات “المتواشجة في فستان المرأة" تثير الاستيهامات، وفي نص “مثلث الصنوبر" يفتتح الناص ب: “أيقظني صهيل مهرة رقطاء على تخوم نهر يشعشع على ضفّتيه زهر الدّفلى. لون هذا الزهر المفرد سيظل يضرج الأحلام والرغبات والنزوات. هل لأنّه يشبه قرمز شفاه النصرانيات؟ أم لأنه لون جراح المغدورين؟". فالموجودات مرايا تتبادل الانعكاسات، وتفتح مسالكا في المتاهات لتلمس طريق نحو ما يسكن رغبة تتأجج وتؤجج. هي نصوص نابضة بالحيّ المرتد إلى أصله الصافي في البراري، حياة تتنفس صباحاتها في بساتين تنفتح زهورا وتمتد فضاء يختفي بالفراشات المتراقصة... تمتد مجالا يلجه الغزال المرقط ليتلبس بالحالة، حالة الحلول في الفيض. يمتد الغزال بغزل النسيج، نسيج يحبك العبور بالعبارات، عبارات تهندس عالما نلوذ إليه بكلمات اقتبسها الناص السارد من ما تأججت به المخيلة وما استودعته الذاكرة وما تشكل خبرة حياتية، فكان الغزل من الغزال المرقط ملونا بألوان ومنتظما بايقاعات ومشحونا بصور. إن غزالي يراكم ما يضمه رصيد المنجز السردي في المغرب الشقيق من عطاء متميز ومتعدد في اختلافه المبهج، عطاء أمثال الميلودي شغموم ومحمد زفزاف والطاهر بن جلون وبنسالم حميش.