فقدت الجزائر، صبيحة البارحة الأحد، المجاهد والمناضل الكبير أحمد مهساس، عن عمر يناهز التسعين عاما، بعد تأزم وضعه الصحي طيلة الأربعة الأيام الأخيرة، ألزمته فراش المرض بمستشفى عين النعجة العسكري، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. رحل “سي علي" وترك وراءه كتبا كان يقول عنها إنها لسان حاله، وشهادته الحية لمسيرة الثورة الجزائرية، وإيمانا منه بأن الكتابة تبقى أكثر من أي كلام. ابن مدينة بودواو (ولاية بومرداس)، ولد في 17 نوفمبر 1923، رجل سياسي ومناضل ثوري من الدرجة الأولى، واحد من مؤسسي فرع جبهة التحرير الوطني بفرنسا، وعضو المجلس الثوري في 1965. التحق بحزب الشعب الجزائري سنة 1940، تقلد مناصب عدة في صفوف جبهة التحرير الوطني، حيث أرسى قواعده الخارجية، وسعى إلى تثبيتها دوليا لنصرة القضية الجزائرية. عين ملحقا سياسيا وعسكريا في الشرق الجزائري، ثم عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية، فعضوا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، بعد الاستقلال تسلم حقيبة الفلاحة والإصلاح الزراعي من 1963 - 1966، ليكون ثاني رجل يتقلد المنصب في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة. بعد تسلم هواري بومدين الحكم إثر انقلاب 19 مارس 1965، انضم مهساس إلى مجلس الثورة، إلا أنه لم يستمر طويلا، بعد خلاف مبدئي مع السلطة الجديدة. سافر إلى فرنسا وأقام بها فترة، قبل أن يعود إلى الوطن في 1981، سنتين بعد وفاة بومدين. مدافع شرس عن شرعية الثورة التزم المجاهد الراحل بالدفاع عن خيار الثورة، ووحدة صفوفها رغم كل ما قيل أو ما حدث بين فاعليها. وكان يردد أن تاريخ إندلاع الثورة التحريرية في أول نوفمبر 1954 كان “مدروسا بدقة" و"خطوة عظيمة" قام بها الشعب الجزائري لاسترجاع الحرية المسلوبة وتحقيق الاستقلال. و"الحماس الشديد" الذي أبداه الشعب الجزائري فور إعلان بيان أول نوفمبر، يعبر في نظره عن درجة القهر الممارسة على الجزائريين من قبل المستعمر، وأن هذه الحماسة هي الشرعية التي أعطت جبهة التحرير الوطني، روح الاستمرار. ابتعد مهساس عن دوائر التشكيك في ساعة الاندلاع، فكان يقول إن الساعة الصفر كانت موعدا “مدروسا بدقة" لسد الضعف والأخطاء التي كانت سائدة في عمل الحركة الوطنية وذلك من خلال “العمل الخاطف والسريع". كما شرح مهساس في أكثر من مرة، وجهة نظره حول الخلفية النظرية للثورة الجزائرية، التي لم تكن تشبه الثورات الأخرى، وبكونها “ثورة أسست لنمودج نظري" مختلف عن السائد، فكانت النتيجة “ثورة شعبية مسلحة"، وهو ما يفسر انخراط عديد المناضلين عبر العالم، في سياق المطالب الجزائرية في حق تقرير مصيرهم. قضية بومدين وبوصوف والعقيدين عميروش والحواس لم يكن المرحوم مهساس من النوع الذي يسكت عن قول آرائه، فقد كان رجلا مثقفا، قارئا نهما، واسع المعرفة، وداركا للقوانين، ومتابعا للشأن التاريخي الوطني. لهذا كنا في كل مرة نقرأ ردوده المطعمة بالدليل والحجة، مثلما كان الحال مع سعيد سعدي، حينما أصدر كتابه عن عميروش، فأجابه الراحل بالقول: “نعم كنت معارضا لبومدين، لكنه بريء من دم عميروش"، وقال أيضا إن “اتهام بومدين وبوصوف هو مناورة سياسية ضد الجزائر"، ودعا يومها سعيد سعدي، زعيم الأرسيدي المستقيل، إلى تعلم “أصول الانتقاد" وعدم اخراج الخلافات الداخلية إلى الخارج، في إشارة منه إلى فرنسا، التي كان يرى أنها دائما تناور بطريقة أو بأخرى لإزعاج الجزائر، وأن هذه الأخيرة تسعى إلى تبييض تاريخها الاستعماري، وهي تعلم أن “الاستعمار مجرم منذ قديم الزمان"، إلا أن الراحل لم يكن يمنّي نفسه بمطلب بعض الجهات باعتذار فرنسا عن جرائهما، وكان يقول: “انتظار فرنسا تقديم الاعتذارات للشعب الجزائري يعد أمرا صبيانيا في رأيي ولا يعقل ذلك أبدا"، بهذه الصراحة كان يحاول إيقاظ الغافلين، ويطرح بديلا آخر على المطلب المباشر، هو العمل الجاد والتفاني في خدمة البلد، بعيدا عن الفساد والمحسوبية. جزائر الاستقلال في نظر المجاهد لم تكن الجنة الموعودة: “نحن لم نكن نتصور أننا سنقيم الجنة بعد الاستقلال في الجزائر، بل كنا واقعيين في تصورنا فبعكس كل التناقضات والتخلف الذي كان عليه الشعب الجزائري اجتماعيا وعلميا واقتصاديا ونواحي عديدة أخرى كانت نتيجة للسياسة الاستعمارية، وهذا ما كنا نريد إنهاءه خلال الفترة التحريرية وبعد الاستقلال ولكن هذا لا يمنع من الاجتهاد لإيجاد الحلول لأوضاعنا وإن كان ضعفنا في هذا الجانب ما زال مكرسا". المذكرات التي لم تكتب رغم غزارة ما تركه علي مهساس للمكتبة التاريخية الجزائرية، بالنظر إلى أقرانه من المجاهدين والمناضلين الذين لم يكتبوا مسيرتهم وشهاداتهم، إلا أن “عمي علي" ظل دائما يرى أن كتابة مذكراته “الموضوع صعب"، وفي غياب مساعدة خاصة في مجال الوثيقة. كما اعترف في أحد حواراته أنه يحتاج إلى من يعينه على الترجمة من لغة إلى أخرى: “لقد ألّفت كتبا لما كنت قادرا، والمذكرات أمر مهمّ. لقد كتبت ونشرت أربعة كتب أو خمسة، لست أذكر بالضبط، أهمّها كتاب في تاريخ الحركة الوطنية حتى 1954، وهو كتاب معروف، وكلّ الشباب المثقف اطّلع عليه، وهو كتاب علمي صدر على شكل أطروحة دكتوراه، إضافة إلى كتاب آخر عنوانه “الجزائر الثورة الديمقراطية" وفيه نقد لمرحلة بومدين. يستطيع الإنسان كتابة الكثير عن الثورة من 1954 إلى 1962، ورغم أنّني كتبت عن الثورة، إضافة إلى الكتب التي حدّثتك عنها والكثير من المقالات في الجرائد، إلاّ أنّني أرى أنّ هذا غير كافٍ"، قال مهساس.