إلى بناة المستقبل·· إلى خاطر أبو حبيب، مصطفى الزعتري، جمال تقي الدين، عدنان الأمين، زاهي ناضر، أحمد شرف الدين·· إلى من أحبوا الأرض· البارحة: يوم كان أبي (توفي عام 1963) كان الشاعر الشعبي يحاكي أيامه، ما يقوله كان سجلا ليوميات الناس، ينهض معهم في الفجر، يتابع حركتهم في الظهر، ويسهر مع أماسيهم ليلا، كان الشاعر يصف فصول الخير تلك التي تصنعها أيادي الناس، الفلاحين، كان الشعر منتميا إلى الحياة، إلى الأرض· أما مفردات الشعر فمنها نتابع جمال الأيام والطبيعة والإنسان· كان الشاعر يأخذ بذاره من الطبيعة ليزرعه بين الناس، والأرض جنته وجنينته، مرآته، وجهه وجهها الذي ترسمه الأيادي المشابكة كل يوم· دونه ليس من فصول، من خصب وعطاءات، ليس من بذر وحصاد·· هو من يصنع الحلم، الأمل، يزرعه في المواسم، كلماته تأتي بالمطر، بالسنابل، وبغصون الأشجار المحملة بالثمر· كان الشاعر رفيقا لحيوات الطبيعة، عدو لبعضها وصديق لمعضمها، يغني للسنبلة، للتفاحة التي أكلها آدم، للعدس والشعير والحمص والفول وطور سنين، للحمار والحصان، للقط والفأرة، للعصفورة والشحرور والحجلة، للفراشة والحرذون، هم امتدادته، بعض من حياته، أهله أهل الطبيعة، هو وهم يجددون كيانهم منها، هو ذاته الفلاح، الحرفي، الناطور، هو وهم عيون الله على الأرض· كان الشاعر ذاكرة الناس والأرض والزمان، كان ذاكرة الله· اليوم: تبدلت الأيام، ترك الفلاحون قراهم، مات الشاعر، ماتت معه لغة الأرض، بموته لم يعد من تواصل مع تلك العوالم التي ساهم في صناعتها، تلك التي تتحول تدريجيا إلى يباس وتصحر وباطون وأماكن للنفايات·· لم يعد من حمار وناطور وكلب وقطة، لم يعد من فصول·· تلك القرى التي امتلأت المدن العربية بالمنفيين منها· اليوم لم يبق في تلك القرى إلا بعض من عجائز، وهم ضمائر الوجود، ذاكرة الأرض، شهود على فصول الخير، على التلاقح الذي كان، حين تحبل الأرض بمني السماء· ●●● ما كان بالأمس لم يعد من شاهد عليه إلا ما تبقى من إرث جيل وقد شاخ ودونهم عقد القران بين الإنسان وحبيبته الأرض قد فسخ·· لم يعد من تفاعل·· تبدلت الحال، الأيام·· البارحة شمسها غابت مع أجيال ماتت، أصبحت سمادا للأرض التي أحبوها، أما أجيال اليوم فقد تغيرت وجهتها تماما، كما تغير وجهها·· اليوم، أجيال تضيع، لا تعرف وجهتها ولا وجهها· الطبيعة التي كانت مطعما للحيوات كافة، تخلت عنها الأجيال الجديدة، تركتها إلى مدن وقد بنيت على أنقاض ريف وقرى، إلى مدن لم تحتضن أبنائها بل رفضتهم·· إلى ريف لم يعرف اهتماما من سياسيين، خاصة على صعيد بناء بنى تحتية، مدارس، مستشفيات، إضافة إلى مخططات للتنمية، خاصة الزراعية منها، بما يستتبعها الإنتاج السلعي والمعرفي· هذه وتلك المدخل الضروري لتوطين إضافات الأجيال وثقافة العصر ومعطياته العلمية والتقنية، إلى سياسة وتنمية تربوية هي ذاتها التي يحتاجها سكان الريف كي تعود إليه الحيوات البشرية وغيرها، تلك التي ضاعت ومازالت تبحث عن أمكنة للإستقرار والحياة· بهكذا سياسات وغيرها يعود الريف مكانا صالحا لسكن الأجيال المقبلة، تصوب العلاقة بين مجتمع المدينة الذي يأكل ولا ينتج، وبين مجمع الريف الذي يعمل ويأكل القليل· بهكذا سياسات تعود لغة الشعر الشعبي إلى أرضها، إلى بيئتها، إلى رحمها، وسيلة للتفاهم ما بين الإنسان والطبيعة، ومع الذوات المجتمعية وحيوات المكان، الأمكنة·· لغة الشعر الشعبي اليوم أصبحت خارج مكانها وزمانها، هي لغة من التضليل، لا تعبر عن شيء، بل هي اللغة التي تسعى لتأجيل الأحزان التي تحملها الأجيال التي ابتعدت عن الأرض، عن قراها· ●●● البارحة: عبرت المدرسة الرحبانية عن مجمل التحولات التي حصلت بين الريف والمدينة، وحملت هذه المدرسة المفردات المرتبطة بحياة الناس، الفلاحين· لهذا السبب عاشت هذه المدرسة واستمرت تغذي الذاكرة وتعمل على تصويب العلاقة· وعمر الزعني ذاته كان موازيا في نقده للسياسات المدينية للمدرسة الرحبانية· كما برز محمد شامل ومسرح شوشو، وأخيرا مسرح أنطوان غندور لرفد هذه التجربة التي عبرت عن روحية الحياة التي يعيشها اللبنانيون، وليتأسس منها الرافد الفعلي للحياة السياسية برافعتها المغايرة· هذه الحالات أتت من رحم ومخاض المعاناة ولم تكن من خارجها حيث عبرت عن المساحات الروحية التي عرفتها حياة الجماعات الريفية في علاقتها بالسياسات التدميرية المدينية· وربما ما جاء في كتاب أنيس فريحة المبكر ''القرية حضارة في طريق الزوال'' إنذارا مبكرا (عام 1948) ليفضح الخطر السلبي المبرمج الذي يمارسه السياسي في محو هوية الإنتماء وتجويف جوهر الثقافة الريفية المنتجة· أما ما يأتي به الشعراء الشعبيون اليوم، فليس له صلة بهكذا مدارس وثقافات عرفتها الحياة قبل ,1975 كان يعيش من القطاع الزراعي حوالي 50% من المواطنين· الشعر الشعبي اليوم يروج لثقافات مستلبة، مغربة، تبريرية· لثقافة لم تسع من أجل خلق رافعة تضيف إضافاتها إلى معارف الجيل الذي سبق ولن يتم هذا إلا بتحديث القطاع الزراعي والتأسيس لعلاقة متجددة مع البيئة والطبيعة، وبالتالي، مع العصر هذا الذي تصنع موضوعاته الأجيال بما تضيفه وتراكمه من إنتاج ومن حاجات مادية ومعرفية· ●●● البارحة: دفنت لغة الشعر الشعبي بقاموسها ومفرداتها مع من دفنوا، في أرض كانوا يجددون حياتهم فيها·· اليوم تشتت الأجيال، لم يعد من مرجعية لهذه الأرض، لم يعد من تراكم على ما أسس له جدودنا وأباؤنا، لم يعد من تواصل مضاف ومنتج مع ما كانت عليه حياتهم·· لم تتحقق الثورة الزراعية التي وعدت أجيالنا فيها، تلك التي تربط العلم بالتنمية، وتؤسس للجديد والمعاصر ملبية الحاجات الغذائية لمجتمعاتنا، تلك الثورة الإصلاحية التي هي الأساس لكل تطور اجتماعي تقني فكري· نعم، إن الريف نزحت عنه الأجيال الجديدة، الأجيال التي كان عليها أن تضيف، وأن تجدد وتستبدل التقنيات القديمة بتقنيات معاصرة يمكن منها مراكمة النتاج والإنتاج، وبالتالي سد حاجات مجتمعاتنا الغذائية، تلك التي يمكن توفيرها من بيئاتنا الزراعية· لقد قتلت تلك الحياة التي لا يمكن تجديدها عبر سياسات وثقافات الاستهلاك السائدة، تلك التي تستنزفنا وتستنزف إمكانياتنا· تلك المنتوجات التي نستوردها تأتي دون تعب لنا فيها أو في إنتاجها· هذه السياسات التي جعلت من مجتمعاتنا عالة على الآخرين، بل مجتمعات أسواق لما ينتجه غيرنا·· نعم، إن هكذا سياسيات أدت إلى أن نصبح دون أرض، ودون سماء، وسماؤنا ساحة للأقمار الاصطناعية التي إن دل وجودها على شيء، فإنها تدل على القوة العلمية التي وصلت إليها تلك الشعوب· بينما نحن مازلنا نتغنى، وبنفس الأسلوب بهذا القمر الذي تغنى به جدودنا منذ آلاف السنين· إن السيطرة على الجو ما هي إلا لتأكيد السيطرة على أرضنا وبحارنا وغاباتنا وعقولنا التي نزحت إلى مجتمعات تعترف بالعقل· نعم، نحن نجتر ثقافة لم يعد أحد يأخذ بها إلا نحن·· فهل نريد تصدير الثقافة الدينية وهذا السائد منها الذي لم يهتم يوما بالعقل وبحاجات الناس المادية؟ نعم، أصبح أمسنا حلم لحنين ما كنا عليه، وأصبحت أيامنا كآبات متواصلة من الأحزان، وغدنا له مثالاته ونماذجه التي تأتينا من الخارج لنتلقفها ظنا أنها ثقافة حداثوية· بينما ما يكتب يساهم في تدجيننا وتأكيد غربتنا وضعف حالنا·· ونحن في كل ما نقوله أو ننظمه شعرا، نجتر ما قيل ليس فقط منذ ألف سنة، بل ما جاءت به أفكار وأسئلة عصر النهضة، هذه وتلك التي اجترتها نخب سياسية دون أن تضيف إليها الأسئلة المستجدة التي بقيت معلقة دون أن يجيب عليها أحد· فضلا عن ذلك الإهتمام بمسألة التعليم بما تشكله من أمن وطني، وعبرها تتراكم المعارف التي تنمي شخصيتنا وتحتاجها مجتمعاتنا، التي لا زالت تحركها وتحكمها سياسات أنظمة سايكس بيكو المستمرة، وعقليات لا زالت تهيمن عليها الثقافتين الإقطاعية والإستعمارية، وبثقافة اتكالية معتقدين حامليها بأن الصلاة والصيام والأدعية دون الجهد والعمل يمكن أن تغير الأحوال، خاصة وأن خطباء الجامع ومسيرو المؤسسات الدينية، يعتقدون أنهم يخاطبون مجموعات أقل ثقافة، وأدنى مرتبة دينية ودنيوية منهم· نعم حرقت غاباتنا، هدرت مياهنا، سرقت شواطئنا وعمرنا بيوتا في بيروت والمدن العربية الأخرى، تلك التي لم يبق فيها أرض، ولا سماء ولا بحر· إن ما تصنعه بنا هذه العقليات وتنافر أزمنتها مع بعضها، خاصة السفلية منها والحداثوية الاستهلاكية، منهما يتم خلق الكوابح التي أخرجت مجتمعاتنا من دائرة الزمن، ومنهما يستمر هذا التخلف وآلياته لصالح أصحاب المصالح المشتركين، سواء كانوا في داخل مجتمعاتنا أم غرباء، هذه الثقافة وتلك ما هما إلا عدوان لمصالح مجتمعاتنا في التعاون والتنمية، بما يستبعدان التخطيط الحضاري الذي يتحقق عبر التربية المعاصرة، ومواجهة ذلك لا تتم إلا بسيطرة التربية العلمية التي هي المدخل للتغيير المجتمعي التنويري، ومكافحة التفاوت الاجتماعي، وبالتالي السيطرة على حاجات المستقبل· نعم، ليست حضارة القرية في طريق الزوال، بل إذا استمرت الأوضاع والسلوكيات العربية على ما هي عليه، فإن لغتنا ذاتها في طريق الزوال، وفقط لاحضوا الكم الهائل من المفردات الأجنبية التي أصبحت جزء امن لغتنا لتعرفوا أيها العرب عن أي شعر أو لغة تتحدثون· نعم أيها الحكام: إنكم تختلفون كي لا تنفذوا شيئا مما تستوجبه مسؤولياتكم· أخيرا، إن التخلي عن لغة الأرض، لغة الفلاحين، بما يعني من تجاهل لذاكرة الذين عاشوا تاريخا غير مكتوب، هي المدخل للتخلي عن لغة السيادة والإستقلال، وهي المدخل للتفكيك السياسي والإقتصادي واللغوي، ليس فقط في لبنان، بل في كل مجتمعاتنا العربية·