تتقاطع السياسة والفن والأدب في حياة المبدع المالي حبيب دامبيلي، لتعطي في نهاية المطاف مناضلا معارضا للحكم الاستبدادي. يعترف “غيمبا" (اسمه المحارب) بدور المسرح في تشكيل وعيه السياسي، ويؤكد أن “الكوتيبا" التي ترادف اليوم المسرح الثوري والملتزم، غرست فيه روح النقد والتنديد بكل محاولة لقمع الأفكار. التقيت بغيمبا بالمسرح الوطني الجزائري، هو ضيف المهرجان الوطني للمسرح المحترف في دورته الثامنة، اكتشفت أنه وراء دوره على الخشبة أو في السينما أو أثناء كتابة رواياته، هو مصنع للقناعات المتحررة، ومشروع رئيس جمهورية منتظر، سبق أن ترشح للرئاسيات سنة 2002، وهذه السنة امتنع عن ذلك ليسند ظهر صديقه الدكتور سومانا ساكو. يتحدث داميلي بثقة عن “ذكاء" فرنسا في تنفيذ مخططاتها في إفريقيا كلها، إلا أنه لا يمنع نفسه من القلق حيال الخلفية الاستعمارية المراد. ويقول إنها لا يجب ان تصدق أنها بصدد استرجاع مجد استعماري ضائع. التمزق الاجتماعي والسياسي والعرقي في مالي، لا يبرر في نظر محاورنا رغبة الانفصال وتفكيك البلد، ولهذا يعلن صراحة أن حركة الأزاود ليست مجاهدة بل مجرد مجموعة متمردة مثلها مثل باقي المجموعات الأخرى. دمبيلي يقول في حواره مع “الجزائر نيوز" إن شمال مالي ليس حكرا على التوارق وحدهم، وإن المعاناة والإقصاء تتقاسمهما معهم كل القبائل الأخرى. أنا حبيب دامبيلي، يسمونني في المالي “غيمبا"، مررت بتكوين مسرحي أربع سنوات بمعهد التمثيل ببماكو في مالي، التحقت بعدها بالخدمة العسكرية ثم اللجنة العسكرية للتحرير الوطني بمالي، إلا أني لم أتحمل الوضع، فاضطررت للاستقالة بسبب قناعاتي السياسية. سوء التفاهم هذا قادني إلى تجربة دولية، مررت بتجارب متنوعة مع مخرجين، كتبت نصوصا كثيرة. هذا ما فعلته طيلة حياتي وما أزال أكتب لأقول أفكاري وأنقل نضالي إلى الآخرين وأحاول إقناعهم، كما هو الحال مع انخراطي الأخير في مسار إعلان الزعيم نيلسن مانيلا رئيسا لإفريقيا، حتى نحقق السلام المرجو، ونغير أوضاعنا التي تراوح مكانها. انخرطت في هذا المطلب لأني مقتنع بأن حكام إفريقيا أنانيون لا يحبون إفريقيا، لا يفكرون إلا في مصالحهم الخاصة. في نصي ما قبل الأخير بعنوان “إفرقي في المدينة" يتحدث عن الحياة في مالي، مرات أقول لنفسي إن السياسة هي التي قادتني إلى المسرح، ولأن المسرح هو اولا وقبل كل شيء التزام، وهو السلاح الأكثر فعالية وسلمية للتغيير. نظرا لرفضي المشاركة في بعض القرارات في المالي، وتطبيق بعض الأشياء التي رأيتها مضرة بالشعب المالي، اعتبرت ملكة الكتابة أحسن ما يمكنني فعله خارج الوطن، ولأني مجبر على العيش بعيدا. فكانت نصوصي محل اعجاب الكثير من الناشرين. في البداية لم أستقر تماما بفرنسا، كنت دائما في حالة ذهاب وإياب، أقدم مسرحياتي في مختلف المهرجانات. تقاطع مساري مع مخرجين فرنسيين، ساهموا في استقراري اليوم. أنا على اطلاع حثيث بما يحدث في البلد، وأعرف أن مالي راح ضحية حكم مجحف ومتسيب منع تعدد الرؤى، وأجبر الناس على سياسة واحدة ووحيدة. هؤلاء الساسة زرعوا الفوضى وأشعروا الناس بالقهر، ودفعوهم إلى المغادرة بكل الطرق. نحن نرى بألم تبعات الحكم الجائر. أعتقد أنه تدخل سلمي، لولا ذلك لكنا في حال أكثر سوءا من الحاضر، إلا أني أتمنى أن لا تأخذ فرنسا تواجدها بأراضي مالي كنوع من التعويض عن مجد استعماري ضائع. اليوم لا نعرف بالضبط بما تفكر فرنسا، وهو ما يثير القلق والحيرة، أعترف، خاصة عندما أقدم الجيش الفرنسي على منع الجنود الماليين من الدخول إلى مدينة “كيدال"، تصوري تبعات هذا القرار ؟!؟ تفسير هذا السلوك الغريب واحد، ثمة نوايا بعيدة المدى، تدخل في الشأن الداخلي، خاصة مع الانتخابات المنتظرة قريبا، فكيف يمكن لفرنسا أن تجبر البعض على التصويت وتمنع آخرين في بلد واحد؟ لهذا أشعر بالقلق حيال الضبابية التي تلف تحركات فرنسا بالأراضي المالية. أعلم ذلك، وقد كنت ممن رحبوا بدورها الإيجابي في مساعدة الماليين في استرجاع الأمن والاستقرار. لا أنكر أن هذه الخطوة أنقذتنا كماليين ونحن نشكرها ألف مرة على ذلك، نحن شعب لا ينكر جميل أحد مهما كان. لكن مع مرور الوقت و استمرار الصراع تتدافع أسئلة جديدة في أذهاننا ونقول لأنفسنا: ما تفسير التقدم الفرنسي إلى جبهة الصراع في مالي؟ فرنسا كانت وما تزال أذكى منا جميعا، وأعتقد أنها ستنجح في بلوغ مقاصدها، أمام ضعفنا كشعب مستعمر. الأكيد أن شمال المالي عانى التهميش والإجحاف، ليس بإرادة الشعب المالي، وإنما بإرادة الحكام. عليكم أن تعلموا أن مناطق أخرى من البلاد تقاسم الشمال التهميش والفقر. إذا انتفض سكان كاي وسيمبا وأعلنوا عاليا اأهم دون ماء صالح للشرب ولا كهرباء فسنعلن الحرب ونطالب بدولة مستقلة، ساعتها لن يكون هناك دولة اسمها المالي؟ سنكون أمام شتات منفصل في كل مكان.لا يمكن إنكار حقيقة تهميش سكان شمال مالي، وأنه حتى الأموال التي وجهت لخدمته، اختلست لأغراض شخصية ضيقة. لكن لا يحق لأحد أن يطلب الانفصال عن الدولة. إن الحركة الوطنية لتحرير الأزواد لا تمثل التوارق في شمال مالي، لا تتجاوز نسبة تمثيلهم ال00،0 بالمائة، وكذلك المتمردون الآخرون الذين يتبنون بيانات الانفصال والخروج عن طواعية الوطن نسبتهم معدومة. فالشمال هو مزيج من القبائل والمجموعة التي تشكل في النهاية منطقة واحدة، ولا يمكن التركيز على فريق واحد دون غيره. بطبيعة الحال موجود. فالمسرح يسعى من خلال كتاب ومخرجين من شاكلة المخرج الكبير يوسونسور الذي أشرف على إنجاز عمل مسرحي جميل جدا كنت واحدا من مهندسيه، بعنوان “واري" والتي معناها “المال"، دافعنا عن البعد الوطني للمالي، وكان ذلك في 1998، وقد نجحنا في تعرية بعض المظاهر السلبية، وأبلغنا ذلك للجمهور الذي فهم الرسالة. نعم الكوتيبا شكل من أشكال التعبير الجماعي في مالي. هو شكل من أشكال المسرح، وقد حاولوا إفهامنا أن الفن الرابع وفد إلينا من الخارج، وتبنيناه حديثا، ونحن بصدد تعلمه، بينما المسرح كفعل تبادلي حواري تفاعلي، كان موجودا في مالي منذ القدم. كان علينا انتظار مساهمات بعض المثقفين والباحثين الأجانب، ليخبروني عن شيء اسمه “كوتيبا" وهو لا يختلف بتاتا عن المسرح. الترجمة الحرفية لكوتيبا هي “الحلزون الكبير". المخلوق الذي يحمل على ظهره قوقعته ذات الشكل اللولبي، وبالعودة إلى الوراء كان المسرح هو الفضاء الوحيد الذي يجتمع فيه سكان القرية، وفي الساحة العمومية كان يجتمع اللاعبون والنساء و الأطفال والرجال وعازفو التامتام حول الممثلين، وبانتظام ترتسم أمامك حلقة لولبية مشكلة أولا من الأطفال ثم النساء ثم الرجال، ليشكلوا في نهاية هذا التجمع تحت ضوء واحد وهو ضوء القمر الكوتيبا التي كانت تحدث ليلا. بالضبط الكل يدور حول مركز واحد. في هذا النوع من المسرح تجدين كل أنواع الناس، الكل يذوب في المسرود. في الصور المنقولة على لسان الرواة. في هذه الحلقة تعثرين على كل المدارس الغربية المؤسسة للفن الرابع، من ستانيسلافسكي إلى شكسبير..وصولا إلى الكوميديا دي لارتي والترجيديا.. شيء مذهل بالفعل. لهذا أكرر قولي إن المسرح لم يكن سلعة مستوردة من الخارج. أول رئيس ديموقراطي لمالي كان آلفا عمر كونارين، وفي مرحلة معينة من مسيرته كان وزيرا للثقافة، قال للناس يوما: “ليعد كل واحد منا إلى قريته ويحمل معه مسرحه لنقدمه في القاعات" نحن مدينون له بذلك، وقبله كانت شخصيات مرموقة ثقافيا ساهمت في استغلال مخزوننا الحضاري، مثل كوسيدي وارى أنجز أفلاما وثائقية حول الكوتيبا، كما حاول آخرون عصرنتها. من المجدي أن يتمرن الواحد منا على يد بيتر، فهو من أكبر رجال الخشبة في العالم. مع بروك تتعلم المسرح والحياة في نفس الوقت، وخلاصة احتكاكي به اختصرها في أمرين: كان يريد أن يعرف رأيي في موضوع معين، فامتنعت عن الرد من باب أنه الأستاذ وأنا التلميذ، فغضب كثيرا وقال يصرخ: نحن هنا لا أستاذ ولا تلميذ، كلانا يبحث عن المعرفة وعلينا أن نساعد بعضنا لنتوصل إلى الحقيقة. سنوات فيما بعد قبل مغادرة فرقته، سئلت في حظرته دائما عن تجربتي معه، فأجبت: بعيدا عن كونه مدرسة كبيرة تعلمت منه الحياة. المسرح هو شكل من أشكال التعبير، هو مثل المرآة التي ننظر فيها لأنفسنا، نتأمل ملامحنا وتعابيرها. لهذا لا أؤمن بفكرة وجود مسرح إفريقي كنوع قائم بذاته. أحدهم سأل بيتر بروك يوما: لماذا تعمل مع ممثلين سود؟ أجابه أنا أعمل مع ممثلين فقط، لا يهمني لون البشرة. تماما كما تقولين. أفضل الحديث عن المسرح في إفريقيا، وليس المسرح الإفريقي. فيديريكو غارسيا لوركا قال إن المسرح الذي لا يحمل هموم كل شعبه هو مسرح حي ميت. سبق أن ترشحت لمنصب رئيس الجمهورية في 2002، ولكن هذه السنة لن أتقدم لأني قررت أن أساند رجلا أرى فيه الكثير من الصفات الجيدة لخدمة المالي، وهو الدكتور سومانا ساكو، كان وزيرا أول للحكومة الانتقالية المالية. عندي الثقة التامة في شخصه، فهو يمثل الرجل الذي تحتاجه مالي الآن وبمساندته أؤكد لباراك أوباما أنه أخطأ حينما قال إن إفريقيا لا تحتاج إلى رجال بل إلى مؤسسات. هذا خطأ كبير، الكل يعلم أن الماليين لا يريدون سوى مدارس محترمة، علاجا مضمونا، وسد رمق العيش. المرشحون الذين سبق أن تقدموا لهذا المنصب، عرضوا على الشعب برامج رائعة وذكية، و لكنها طبخت في مخابر متخصصة، بينما إفريقيا تحتاج إلى رجل يعرف كيف يحول الكلام إلى فعل. وهو كذلك، رجل مستقيم، وفي وصالح. وأعتقد أني وجدت هذه الخصال في رجل اسمه سومانا ساكو، وزير المالية السابق (1986-1987) في حكومة تراوري الديكتارتورية قبل سقوطها، وكان الوحيد الذي قدم استقالته ورحل.