كانت الميادين بحراكها، حاملة للوعد، بدأت رائعة بعنفوان وتوهج وتوتر الروح التي تنشد الكرامة والحرية والعدالة... روح اختزلتها صرخة ذلك التونسي: "لقد هرمنا"... بدأت رائعة بتناغم من في ميدان التحرير وصلاة المسلم إلى جانب القبطي.. يظل سؤال النخب هو الحاضر في التشعبات المتاهية التي تعرفها وجهة الأحداث في كل الخريطة التي تشمل ما عبر عنه مالك بن نبي بمحور طنجة جاكرتا. الكاتب السايح الحبيب تحدث في مقاله الأخير بصوت الأحرار عن المسخ الأعظم وكتب: "محكوم علينا، نحن الجزائريون، لحرب تحريرنا وتجربتنا مع العنف المسلح ولمكانة بلدنا، أن نتبصر جيدا ونحكم العقل في ما يخفيه كل حراك من حولنا، لنتجنب المسخ الأعظم". هذا المسخ بتعبير السايح حبيب، يتمشهد في تناحرات تؤججها المذهبيات والعرقيات والقبليات والدوغمائيات العقائدية والأيديولوجية... يتمشهد في أبراج بابلية ترتفع فتضيع اللغة ويعم اللغو، يضيع السلم الألسني بتعبير الخطيبي فتندلع الفتنة وتتحول هلاكا وخرابا. عن الميادين: كانت الميادين بحراكها، حاملة للوعد، بدأت رائعة بعنفوان وتوهج وتوتر الروح التي تنشد الكرامة والحرية والعدالة... روح اختزلتها صرخة ذلك التونسي: "لقد هرمنا"... بدأت رائعة بتناغم من في ميدان التحرير وصلاة المسلم إلى جانب القبطي، وتلاحم المتحجبة مع أختها التي لا تلبس الحجاب. صارت الميادين مخيفة ومرعبة، تملؤها العفاريت التي انفلتت من القماقم، وكأن علبة باندورا انفلتت. ولا غرابة في التحول، لا غرابة عندما نتقصى ونتحرى.. لا غرابة فالحماس الذي لا يؤطره عقله ولا يمؤسسه فكر ينفلت ويصبح اهلاكا.. يصبح الميدان مسكونا بالحشد، ويتحرك الحشد بالهستيريا. كانت الميادين طاهرة فامتد إليها التدنيس من النفاثات في العقد وحمالات الحطب. ورغم الذي يحدث تظل الميادين مرجعا، ويظل الرأي في الذي حدث ويحدث كما سبق لي الإشارة في مقالات سابقة، حدثا تاريخيا لا يمكن أن ننمطه في أحكام طرفين، طرف التهويل وطرف التهوين. طرف تغنى بالربيع وتحدث عن الثورة واندفع ليقول إن ما حدث أعظم من كل ما حدث. وطرف كفر بكل شيء واختزل كل ما جرى في مؤامرة دبرت. والرأي أن الذي حدث كان منعرجا، لكن المنعرج حاصرته وجذبته المتاهات. البديل الغائب: تحرك الميدان ولم يتحقق البديل، واستمر الوضع الذي ثار من أجله الناس، فانقلبت المعادلة وبدأ الفصل الأصعب.. القوى السياسية لم تبلور بديلا، رفعت شعارات.. في حراك انطلق، انبعث ارتداد وظهر اليتم الذي جعل التلهف إلى أب كبير، إلى الزعيم، إلى الصنم وكأن لا شيء حدث، وكأن الزمن توقف وظلت المعادلة العربية، هي معادلة الشيخ والمريد، كما عنون عبد الله حموي كتابه المهم. تحرك الميدان فاستنفرت الدولة العميقة قواها، وتحركت القوى المالية لتمول الثورة المضادة وتحركت منظومات إعلامية مرتبطة بقوى المال وقوى الدولة العميقة، تحركت في زعزعة التركيز وإغراق الناس في تفاصيلها تحتضن الشياطين في أرحامها.. وبشراكة الثلاثي الفرعوني القاروني الهاماني ينتج المسخ الذي أشار إليه السايح حبيب. لعل المحور المهم الذي ينبغي استحضاره، هو المحور الاقتصادي بتأثيراته المختلفة، والملاحظ أن الغائب في الموضوع هو الغالبية، والحاضر هو المضارب ووكيل الأجانب ومنشط البازار، الساهر على ما يعبر عنه جلال أمين بتحديث الفقر. في تحليله لما تعرفه المنطقة كتب الاقتصادي المعروف جورج قرم مقالا بعنوان: "الحلقة الضائعة في الثورات العربية" نشرته السفير اللبنانية في حلقتين... وسجل سبباً يعتبره "رئيسا في تعثر الموجة الثورية العربية وقلَّما نتحدث عنه، ألا وهو غياب أي تصوّر لنموذج تنموي بديل من التنمية المشوّهة التي تتميز بها سلبا الاقتصادات العربية جميعها، وهي اقتصادات ريْعية الطابع واحتكارية تركّز الثروات في أيادٍ قليلة تجني أرباحا طائلة وسهلة، لا تستثمرها في بناء قدرات إنتاجية في مجالات العلم والتكنولوجيا، تُوَظَّف في نشاطات اقتصادية ذات القيمة المضافة العالية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بدورها أن تؤمِّن فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب العربي وترفع من مستويات المعيشة لدى الفئات الفقيرة والمهمَّشة وهي تعيش حياة يومية صعبة للغاية بحثا عن لقمة العيش في بحر من الثراء الذي تكوَّم لدى القيادات السياسية ومحاسيبها من بعض رجال "الأعمال". ولْنتذكر أنَّ أهم شعار قد رُفع من المحيط إلى الخليج هو الكرامة. والحقيقة هذا ما يذكّرني بمؤلَّف قيِّم للغاية كتبه منذ عقود المرحوم الدكتور يوسف صايغ بعنوان "الخبز والكرامة". وفي نظري أن ما جمع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في مارس 2011 هو مطلب الخبز والكرامة، أيْ المجتمع الإنتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة الوطنية في كل قطر عربي وعلى مستوى المجموعة العربية جمعاء، للتخلص من كل الهيْمنات الخارجية ولإعادة الحق إلى أصحابه في فلسطينالمحتلة التي لن تتحرَّر إلا بالقوة الجماعية العربية تساندها قدرة إنتاج فعالة". وقال قرم: "إن الحلقة الثورية الحالية في الوطن العربي، إذا لم تقدم على تغييرات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية لكسر حالة الكسل الجماعي، العلمي والتكنولوجي، ستعيد إنتاج النظام الريْعي بواجهة شكلية أكثر ديموقراطية، لكنها لن تتمكن من تغيير الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السائدة في المنطقة منذ نهاية الستينيات والتي تتعمّق أكثر فأكثر على مر العقود". عن النخب: في مقال بجريدة السفير اللبنانية كتب نصري صايغ: (نقد الذي وجه للمفكر الفرنسي الصهيوني المعادي برنار هنري ليفي، هو نقد مفيد، غير أني أجد أن ليفي قد تفوق علينا جميعا، فلقد كان هذا "المثقف" (العدواني جدا) حاضرا في الميادين. كان حاضرا في القاهرة، وفي تونس، قبل حضوره في ليبيا. كان مقيما في الحدث ومعه، وأحيانا محرضا عليه وحاضنا له. وقد سجل هذا الحضور، في مجموعة كتابات نشرتها جريدة "ليبراسيون" الفرنسية ومجلة "الأكسبرس" الفرنسية. أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حملت الباحث الفرنسي جيل كيبل إلى بلاد العرب وليس إلى نيويورك، راح يطوف عواصم ومدن البلاد العربية، بهدف تقصي حقائق المسلمين في بلادهم لفهم ما قبل وما بعد 11 سبتمبر، وخرج بعد رحلة التقصي هذه بكتاب سجل فيه مناخ المسلمين بعد هذا الحدث، وجعلنا نفهم ونلمس، أن منابع 11 سبتمبر، موجودة في هذه الأمكنة، بناسها وثقافتها وسياساتها ومذاهبها. إنه المثقف المتصل، لا المثقف الملتزم، الذي نعرف خصائص التزامه وحدودها. لم نقع في العالم العربي على مثقف متصل، بالميادين، من خارج ساحاتها الوطنية المثقفون المصريون كانوا الأشد حضورا، ولكن في مصر، والتوانسة كانوا حاضرين، إنما في تونس.. المثقف العربي، ظل بعيدا من نبض وفعل وإبداع وخلق الميادين، واكتفى بقياس الأمور، بأقيسته السابقة للحدث، التي ربما تصلح لماضٍ أكثر مما تصلح في حاضر). ما كتبه صايغ جدير بالتأمل. التهافت: في متابعة الحراك، تكاثر الخبراء المزعومين وصدر عنهم مثل الذي صدر عن الإعلامي المصري الذي قال بأن الإخوان هم سبب سقوط الأندلس. تهافت يظهر في كتابات وتحاليل مزعومة، كمقال فهمي هويدي الذي زعم بأن الشعب الجزائري صحراوي ولهذا هو منفعل.. وفهمي هذا يعتبر بالنسبة لكثير من المتلقين وخصوصا الإسلاميين مرجعا. في حين باحثة مشهود لها بالتمكن وهي الدكتور هبة رؤوف عزت كتبت: "ولأنني لم أزعم أبدا أن عندي الصورة الكاملة بعد تغير علاقة الدولة بالمجتمع في مصر نتيجة تغير موازين القوة وتبدل مواقع الأطراف المختلفة على خريطة الأحداث بعد ثورة 25 يناير فلم أكتب مقالات طويلة للنشر في الصحف منذ عامين ونصف.. ووجدت في ترحالي أن مصر عميقة ومتنوعة بشكل مذهل.. وكلما أحسست أني بدأت أفهمها أظهرت لي جانبا خفيا منها لم أعرفه.. فلا يزيدني ذلك إلا إقرارا بجهلي..". ومن معالم التهافت هيمنة المنطق الفرعوني الإلغائي، فلقد عاد الصوت الواحد وعادت مصر إلى أجواء "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".. الإعلام بكل قنواته ومنابره صار قولا واحدا، وكل من يغاير يصبح عرضة للتشويه والانتقاد، كما يجري حاليا مع عمرو حمزاوي وعلاء صادق وسيف الدين عبد الفتاح.. ولقد تم وقف عمود وائل قنديل.. وبعد أن كان البرادعي يوصف بأيقونة الثورة، صار عرضة لكل صيغ القدح. وختاما نستحضر في معادلة الميدان، مقولة الشهيد العربي بن مهيدي: "القوا بالثورة إلى الشارع فسيحتضنها الشعب".. هو الميدان المحور الرئيس، لكنه دون فاعلية النخب سينقلب ساحات حشودا تنزلق نحو المتاهات.. عندما تتكامل العلاقة وتتحقق المعادلة، نصبح رأيا عاما، والفرق دقيق بين تعبير الشارع تحرك وتعبير اتجاهات الرأي العام.