الأصل في العمل الثقافي هو المداولة، والأصل كذلك هو أن تذهب أيَّة مغامرة نحو مداها الأخير، نحو هاويتها الجميلة، نحو سقوطها الغامض ومأسوريتها المتفانية، مأسورية بالكلام الجميل، بخطاب محبَّة وتواصل، بفلسفة الرهافة وترك الأشياء، كلٌ الأشياء مؤرجحة بين جمالي منشود ليس هو غاية الغايات ولا حسم يُلفت النظر ويزلزل دار اليقين ودار لقمان، العمل الثقافي في جمعيَّة مدنية مثله في جريدة أوفي فضائيَّة أو لقاء مع الأثير المباشر يستدعي المراس الصعب والذهن اليقظ والروح الصاخبة مع النفَس المطواع، الطويل، المواكب، أبعد من ذلك كي تستمر العطاءات وتتغذَّى بالمعاني والمفاهيم وتتجدَّد الأحلام والأفكار، الإيمان بجدواه، رهاناته، تطلعاته، أبعد من ذلك أن يكون ثمَّة نأي عن الفجاجة وفخاخها، عن التشنٌج في الحالة والمكث فيها، نأي هو المهم عن الحسابات المتلوفة والأوراق المحروقة.. أتفضَّل على نفسي عند عتبة الباب وأنا أذكر وأستجمع شتات هذا العطاء الذي يبزغ مع مطلع كلّ مرحلة من مراحلنا الحياتيّة والثقافيّة ثمّ ينحني في الهبوط الاضطراري وهو يتأسّس على موته البطيء، المدرج والتدريجي، أتذكَّر حصصا في التلفاز وأسماء منشطيها، أتذكَّر جرائد ثقافية خبت عن المشهد بوتيرة المفاجأة والإدهاش، سيتولد في نفسي عزاءات كثيرة من ثقافة الانسحاب التي تعمل بآليات مختلفة، في بلادي يمكنني أن أتوقَّع أيٌ شيء في مستقبلي الثقافي، فهو بطبعه سوداوي، نكراني، منفلش، متكلَّس، بل أنَّ النعي هي كلمة محبَّبة في الاستعمال الثقافي وليس لها رديفا أومرافقا أومؤازرا من حقول أخرى، إذ أحاول إبطاء الحكم على التجارب أو"بسط" جوَّ الحزن على الهجرانيَّة التي تمارسها الثقافة لا كخطاب أو مؤسسة فقط بل كماهية على منتجيها أوالمشتغلين في صفّها أو المنضوين تحت ألويتها وألوانها، قسوة وهجران وصمت وفزع وترهيب دافئ يشعر به الواحد فينا، إذ هو عبَّأ ثقافيًّا، ملأ العبوات الناسفة وانتمى إلى حياديَّة الكلمة، أي جماليتها، نهضويَّتها، وحرارتها، أقول إذ أحاول الإبطاء والسير بمحاذاة الوقت الإضافي لا يعني أنَّ المجد كله أنَّني حاولت كما قال الشاعر "وما سيبقى من المجد وجهه، ماء السحنة، وورد الخدَّ هو الذي سيجعلني أبتغي التكيٌف أكثر مع المحنة في الثقافة والمعنويَّة في التجربة والتحصيل والإنجاز.." كان معلّمي في اللغة العربية أيَّام المدرسة والمقاعد الغريبة الملصوقة بكراسيها، أيَّام الطبشور والضحك والكتابة الشيطانيَّة على "الأردواز"، كان معلمي أكثر ما يفدني به هو تعريفه للفظة الثقافة بقوله المكرور بلا ثُقل أوسمَج أو "سْماطة"، الثقافة من فِعل ثقِفَ، أي هذَّب الشيء، صقَله، جعله رهيفا، وكعادتي لم أبذل الطاقة ولم أوفّر اللحظة كيْما أروح إلى القاموس وأتأكَّد إن كان معلَّمي الفاضل على حقّ أو هو على باطل، فقد كان يكفيني صوته كالهدير وهو يردّد ويشرح ويوطّد المعنى بشيء آخر، هذا الشيء الآخر هو جوهرانيّة هذه الثقافة، نسيان كلّ شيء وبقائها هي حيّة ترزق وفي الأعماق تسكن وفي الخلايا تدبٌ، الكلمة المدّعاة، الرهيبة، التي ينتمي إليها الجيل الصاعد والجيل النازل والجيل القادم والجيل الذاهب، والجيل الفتيٌ والجيل المخضرم. كما ستظلٌ الكلمة هذه باشتقاقها في التسمية "المثقَّف" نائمة على مخزون ساحر ومخيال عنيف ولذّة من النفس خفيّة ورهبة على الآخر مرغوبة أومنفّرة، ليس كلٌ ذلك يكفي بل استطرادا تأتي النزوعات نحو البتْر أوالتعليق، أوالإرجاء، أوالقول إنّ المسألة فيها نظر كلّما توضع الثقافة كطبق على الطاولة، كونها من حيث الماهية شيء سهل، مرن، مطواع، رفيع، مأكول، معصوف، ويسهل حذفه من قائمة "الطعام العام"، ويشارك المثقّفون في ولائم الإلغاء والقرعة والسحب والعزل لأنّ الأمر يتعلَّق بمعارك حول الرمز والقيمة، اللقب والاسم، الجائزة والحظ، السيادة وما تحت السيادة، وإذ ذاك لا يظنٌ ظانٌ أنَّها سوق المنافسة وفنون التسويق هي التي تُترجم هذا السلوك الغريزي أوالغرائزي الذي يسود عالم المثقَّفين ومعاونيهم من رجالات الإعلام والإعلان، أي الضرب من تحت الحزام للثقافة نفسها بغية جعلها "لا شيء" أي ذلك الذي ينسى فلا يترك وشما، ولا أثرا، ولا وترا في القلب أو في محيطات الذاكرة، أو في خرائط المخَّ، وعن حصّة ثقافيّة كان لها الجمال وحسن الوجه، طليقة الروح واللغة، أتحدَّث عن منشط كان يتجوّل بين ضيوف المعنى، يرتشف الماء والقهوة، يعدل في المزاج وفي الرائحة كما يعدل في الصوت ولون الديكور، وموسيقى الجينيريك، عن جريدة ثقافيّة، تمدّدت عارية لا تستحي من الناظرين، ناقشت وخمشت وأيقظت العاطل من عطالته، وعن كُتَّاب كان الاسم من بينهم يبرز باللغة ويشاطر بالأسلوب ويبحر نحو لا شاطئ، ولا رسوَّ، ولا خاتمة وصول، عن ملحق ثقافي كما ملاحق أخرى انفردت في التجربة وتكوَّنت بألوان فاتحة، شقّت دربا وأوصلت الريشة نحو أبرع وأعمق ما في الغمسة، الملاحق التي كانت تترى كأجنة مهدَّدة، الموت أمامها ومن ورائها، على يمينها وعلى يسارها، كانت هذه الملاحق تولد تباعا، تترى، تتزايد، ثمّ تنسحق في الغياب الذي يبرمجها تحت نعاله، عن هذا "الشيء الآخر" الذي يتاخم، يشارف، يطلٌ، يضيف ويستضيف، أتحدَّث وأستميت في واقعته وأحرس مخابئه وجنوده وسحرته. إنّ التجربة في العمل الثقافي - مع الفرد ومع الجماعة - هي في قوَّتها وفي عنفوانها إن طالها النقد وعاركها متعاركون وأخضعت للضوء والتجريب فستظلٌ ملازمة لنهاية قادمة، مؤسفة أحيانا وغير مأسوف عليها في أحايين أخرى بحسب نوايا استبظت واستراتيجيات اتٌبعت ومرامي تمَّ الذهاب إليها والعيون مغمضة.. عن الحصّة التي كانت، الجريدة التي سادت وبادت، المنشط الثقافي الذي انطمر تحت تراب مرحلته واستهلكته الأضواء حتى عتّم مساؤه، عن الثلاثة هؤلاء وأصحابهم أحكي سيرة، وأريق الدم والماء والأسئلة، حتَّام يمكن العيش دون صباح ثقافي، وجبته كاملة، وأطباقه مزدانة محفوفة، لذائذه لا تشبع فقط، بل تسمن وتغني وتفعم بالفيتامينات.. حتَّام يمكن النوم على وسادة خالية، لا قراءة في الكتب الشغوفة تكون، ولا موسيقى مهجّنة بعصرها تشير لها الصحائف والملاحق، ولا صوت هامشي، غجري تبعث باسمه وميزته ناشطة صحفيّة في القسم يهتمٌ به الناس أكثر ويحتفون به أكثر، هل يعني أنّنا فشلنا على الطريق وأنّ الطريق مغبّر أيضا إلى درجة تغييره هو الخيار والصحّة وعين الصوابية، يقتضي الأمر حفرا أكيد نحو الماضي، نحو الداخل، إنّنا لا نملك تقاليد البقاء، لأنّنا لا نفكّر في البقاء، بل ميّالين في اقتصاد النفقة على "الثقافي"، ربع صفحة جيّدة مثلا، صفحة تكفي لنقاش هائل حول أدوار المثقّفين وفعالياتهم، ملحق باهت مُعرّض للغلق كما هي المكتبة، والنادي الثقافي، والمجلّة والحصّة. هذا التساقط على خطّ الإنتاج محكوم ليس فقط بتوقٌف النبض ودقّات القلب من أجل مشروع، بل هو محكوم ببيروقراطية جافّة، ومكان عمل سيّء، وعلاقات ظرفيّة غير عميقة، وتشويشات على كلّ ذبذبة تطلع على الناس بالصوت الحسن والإيماءة الأنيقة واللغة الدالة، وبالطبع لو أنّ الوفرات في الجهود والمشاريع والبرامج متوازنة، والمغامرات كثيرة والنزال المعرفي، القيمي، الثقافي دائب لا توقّفه عجلة صدئة، أو زيت وسخ، قديم لكان العالم بخير وأهل "الثقافي" بخير والمتابعين لنا أيضا بخير، لكن الحاصل المذكور هو السائد وهو الذي يتواصل وهو الذي يثبت مرجعيَّة الفشل التاريخي، لقد قرأت مرّة بحثا رائعا للكاتب السوسيولوجي المرحوم "عمَّار بلحسن" وهو يلمح أوَّلا، ثمَّ يكشف ويفضح، ثمَّ يوصّف ويموئل ظاهرة الاختفاءات القسرية وغير القسريّة للمجلاّت الثقافيّة في الجزائر وقد قام بإحصائها عددا وشروط ظهور ومسبّبات مغادرة وكان "عمّار" يحمل هذا الهمّ على رأسه من غياب مكان الكتابة في بلاد لا تحوز على التقاليد ولا تحافظ على الممكن ولا تناور المتاح، غير أنه بدءا ومن اللحظة لا يجب فقط الترحُم والنعي والاستقالات الجماعيّة ففي الأفراد لازالت كامنة الطاقات والشحنات ورغبة المضيَّ في هذا الشيء الآخر الذي يبقى ويضيء وسيحبٌه الناس، حيث لا وجبة تهضم دون حساء يمنع الانسداد، ولا يهم المثقَّفون ووجباتهم فلقد ظلَّ معلَّمي في اللغة العربية يقول: "الثقافة من ثقِف الشيء، هذَّبه، أي صقله"..