قبل الموت، الجزائري أصبح يفضل التوجه إلى باريس لقضاء كل حاجياته اليومية، بدءا من شراء أحذيته إلى إجهاض عشيقته أو اصطحاب صديقته لقضاء عطله رأس السنة، ناهيك عن تعليم أبنائه وإخفاء أمواله المنهوبة. علاقة الجزائري بمدينة باريس غريبة فعلا، فالجزائري تاريخيا ساهم في بناء باريس منذ فترة طويلة ودافع عنها ضد أكثر من احتلال، لغاية تجربة الحرب العالمية الثانية ضد الجيش الألماني. هاجر إليها وعاش فيها وحيدا لغاية ما بعد الاستقلال. فالجزائري العامل الأمي والريفي، إبن الأوساط الشعبية الفقيرة، قرر أن علاقته بباريس يجب أن تبقى علاقة نفعية خالصة... يعمل في باريس ويكسب قوت يومه لكنه يتزوج وينجب في "البلاد"، فلا دخل لباريس في زوجته واسمها وعدد أبنائه الذي بقي سرا لا يعرفه حتى صاحب العمل الذي يشتغل عنده، مما جعل هذا العامل يخسر الكثير من الحقوق الاجتماعية لغاية خمسينيات القرن الماضي جراء هذه العلاقة النفعية والفردية التي قرر أن يقيمها مع هذه المدينة الجميلة والصاخبة التي لم يعرف منها في نهاية الأمر إلا أحياءها العمالية التي أعاد إنتاج قريته وجهته داخلها. لدرجة أن صاحب العمل الفرنسي كان لا يفهم كيف يستطيع هذا العامل المقيم رسميا في باريس لمدة سنوات إنجاب.. عشرة أطفال، وهو بعيد عن زوجته. عامل لم تسعفه مدينة حقوق الإنسان والحرية في تعلم أبجديات اللغة الفرنسية، رغم الإقامة الطويلة فيها.. بدل ذلك تعلم الجزائري العامل والطالب والتاجر الصغير مفاتيح العمل النقابي والسياسي، فكون الحزب والجمعية والاتحاد، ليجمع الكثير من الأموال لصالح ثورة التحرير ويناضل من أجل الاستقلال حتى ولو استدعى ذلك تفجير المباني والمنشاءات التي بناها وعمل فيها لسنوات. لغاية الاستقلال كانت هذه هي الصورة الغالبة عن الجزائري في باريس. عمل وجد وكد من أجل القوت اليومي والمطالبة بالاستقلال والعمل من أجله. غرابة علاقة الجزائري مع هذه المدينة تزداد وضوحا إذا عرفنا أن الكثير من النخب المتعلمة من أبناء المناطق الداخلية مثلا قد تعرفت على باريس قبل أن تعرف الجزائر العاصمة. كما كان حال العامل الذي يغادر قريته في أعالي جبال جيجل أو منطقة القبائل مباشرة إلى باريس، ليكتفي بمرور سريع على مرسى الجزائر العاصمة دون بقية أحياء المدينة. بعد الاستقلال تغيرت علاقة الجزائري مع باريس، فقد زادت الهجرة بما فيها العمالية بدل أن تنقص، والأهم من ذلك فقد تنوعت هذه الهجرة. وظهرت "استعمالات" جديدة لباريس لم تكن موجودة في السابق. فالجزائري المسؤول وصاحب الحظوة في جزائر الاستقلال على سبيل المثال، أصبح يفضل التداوي في باريس ومستشفياتها لدرجة أن أغلبية مسؤولينا أصبحوا يفضلون قضاء أيامهم الأخيرة والموت في باريس هذه السنوات الأخيرة ليتم دفنهم أخيرا في الجزائر. في انتظار الجيل الذي سيقرر أن يدفن في باريس. مما يعني أننا سنكون مع نوعية علاقة جديدة مع هذه المدينة، نظرا لما للدفن من قوة تعبير عن علاقة الإنسان بالأرض. قبل الموت، الجزائري أصبح يفضل التوجه إلى باريس لقضاء كل حاجياته اليومية، بدءا من شراء أحذيته إلى إجهاض عشيقته أو اصطحاب صديقته لقضاء عطله رأس السنة، ناهيك عن تعليم أبنائه وإخفاء أمواله المنهوبة. استعمالات جديدة لباريس من قبل هذا الجزائري المتنوع جعلتها تتحول إلى مدينة أولى لديه، أنسته وضعية مدن الجزائر الأخرى، بما فيها عاصمة البلد. فعند ظهور أول بوادر القلق والنرفزة من وسخ الجزائر أو وهران أو تيزي يغادر إلى باريس حتى لأيام، ينسى فيها أوساخ حيه وصخب جيرانه و«لا نوعية" الحياة الثقافية التي يعيشها فيما نسميه مدنا عندنا، فقد تعود الجزائري أن يمر على باريس وهو في طريقه إلى طوكيو أو دكار أو حتى القاهرة."يشوف الذراري" أو يشتري بدلة جديدة أو يضع في البنك الباريسي ما تبقى من أموال السفر أو ما نهبه من أموال الريع الكثيرة هذه الأيام. وهو تؤكده الملاحظة التالية التي يمكن أن يقوم بها أي مسافر إلى باريس.... الكثير من المسافرين الجزائريين من هذا الصنف الذي نتكلم عنه لا يسافرون إلا بحقائب يد صغيرة جدا وربما حتى من دون حقائب.... لأنهم ببساطة داخلون إلى الدار في باريس. مع الوقت "الذراري" سيكبرون في باريس، يتعلمون ويحصلون على الجنسية الفرنسية التي كان يرفض الأب الحصول عليها كقاعدة عامة، سيدخلون إلى الجزائر هذه المرة مع الشركات الدولية والبنوك التي يعملون فيها كخبراء ومستشارين ومسيرين ولما لا كوزراء ومسؤولين كبار، لكن دخولهم سيكون هذه المرة بجواز السفر الفرنسي/الأوروبي، ليعملوا نصف الأسبوع هنا والنصف الآخر يقضونه في باريس التي لا يريدون مغارتها حتى وهم فوق رؤوسنا في جزائر العزة والكرامة.