-1- أن تنشر لا يعني بالضرورة أنك كتبت، وألا تنشر لا يعني بالضرورة أنك لم تكتب. وبين الكتابة والنشر قصة طويلة ربما انطبق فرعٌ منها على الشاعر عادل بلغيث الذي لا يبدو متحمسا كثيرا للنشر الورقي بمقدار ما هو متحمس للكتابة، ربما نظرا لما يتيحه العالم الافتراضي من إمكانية محو المسافة بين عالمين طالما كانا مقياسا لدخول العابرين على النصوص إلى متن المدونة الشعرية الجزائرية والمكوث فيها مكوثا ورقيا مستديما لمجرّد أنهم نشروا كذا دواوين في كذا دور نشر. ويبدو عادل بلغيث وكأنه مقتنع بهذا الامتزاج الذي توفره له لحظة النقر على الأيقونة من أجل الانتشار في عالمه الافتراضي بطريقة تضفي عليه وعلى نصوصه نوعا من الانتشاء الداخليّ بوصولهما معا إلى من يريدان أن يصلا إليه، وكأن عادل بلغيث هو من اكتشف محاريث الهندسة متكسّرة فأراد أن يبني العالم وفق نظرة خارجة عن الخطيّة السّائدة. ربما كان في منطق الهندسة الكُسورية مبدأ أساسيٌّ هو عدم الخضوع لتراتبيّة النمو ولنمطية البناء، ولمساواتية العيش مع الآخرين بالفكرة نفسها التي توحي، وبالشكل نفسه، بما لا يريد الشاعر أن يكرّره، لا لزهد ثمنه في سوق الكتابة المزدهر، ولكن لما تدعو إليه السّوق من تراتبية المرور بما يحققه السُلّم الشعري ببعده الموسيقي، من إجباريّة المرور بتجربة الإجادة في الرديء قبل البرهنة على الإجادة في ما هو عكسه. ولذلك، فهو يحاول أن يتجاوز النص الشعري كما يكتبه العديد من شعراء ما لم يعد ممكنا تسميتهم ب "شعراء الهامش" -كما في الثمانينيات- نظرا لنفاد حمولة ما تحمله هذه الكلمة من اختلاف وتميّز من أجل استغلال ما يفتحه التجريب من إمكانية التجديد من عمق اللحظة الشعرية. ومن هنا، فإن عادل بلغيث، في ما أطلق من نصوصٍ في صفحته الفايسبوكية، يحاول أن يتجاوز شعرية المسلّمات الفنية والجمالية التي تزخر بها المدونة الشعرية الجزائرية المعاصرة المقتنعة في جزء كبير منها بما تكرسه الممارسة الإبداعية والنقدية التي لا زالت أسيرة تنميطات شكلية وجمالية، من أحكام جاهزة: أشعر ببؤس شديد من تشابه الشاعر بالجنرال... والكلمات بالرصاص،، ومن ضياع ما أكتب في هباء ما أقرأ.. -2- ليس ثمة من شك في أن الكتابة تشكيل نابع من مرآة الألوان التي تسكن الذات المتفجرة ينابيع غضب مختلف ألوانه. ليس ثمة من شكّ كذلك في أن الغضب المتفجّر المختلف ألوانه سيتحوّل إلى حروف ممتلئة كما العناقيد الخاضعة في ترتيبها إلى منطقٍ ما ربما كان "هندسة كسوريّة" عاكسة لمرآة ما تراه العين النّاظرة من امتزاج الألوان بنوع من الدهشة الأولية المعلّقة على حبل الشروق وعلى سرير الشفق. ليس ثمة من شك في أن الوقت كفيل بتوثيق الإجابة المتماهية مع الحروف كما يتماهى المعنى مع الواقع في يزخر به الشاعر من إمكانات تنتظر التحقّق. ربما كان الشاعر عادل بلغيث، وهو يحاول أن يثبت كلّ ذلك أو بعضاً من ذلك من دون أن يدّعي ذلك، أقربَ إلى ذاته القلقة وهي تهزّه هزّا، وترجّ لغته - الوحيدة التي يعتقد أنه يتحكّم فيها- رجّا، من أجل أن تتساقط ثمارها التي لم ينتبه إلى أنها أينعت وحان وقت قطافها، لشدّة تعلّقه بما يعتمل داخله من نصوص يعتقد كذلك أنه رآها قبل الشعراء الآخرين، أو أنها رأته قبل الشعراء الآخرين، كل الآخرين الذين يؤثثون بهو الشعرية الجزائرية الشبيه بدهليز طويل ومظلم إلا من بعض الثريَّا المنسيّة، ويزينونها بلوحات مقلدة ومنحوتات معادة، أو ربما مسروقة "سرقةً حلالاً" من ألف باء التخييل الخاضع لقواميس تودوروف، أو لشعرية جوليا كريستيفا المُحيليْن، في فتواهما الحداثية التي لا "تَنْقَدِمْ" في نظر جمهرة النقاد المتأخرين - وفي نظر الجزائريين منهم على الخصوص-، إلى جواز النهل الحرّ، عن طريق التناصات المبرّرة نظريا ومنهجيا، من مملكة الإبداع الذي يشبه في أصالة نسخته المرقّمة ما يجود به مصنعُ الإنسانية الكبير من بضائع، أو ربما مسرّبة من غاليري التماهيات المُتعمَّدَة في غفلة من "الأنا الأعلى" الذي طالما ألحّ فرويد على استعماله بذكاء خارق لتعرية ما يختلج في نفوس الكتّاب والفنّانين من عُقَد، محاولاً فكّ تشفيراتهم الدّافنشيّة التي يعتقدون أنهم أحكموا إغلاقها جيدا في "ربع الابتسامة" التي لا زالت تأسر زوّار المتحف الافتراضيّ، ورموا أرقام رموزها السريّة في بئر النص السحيقة، حيث لا يمكن لأحد من القراء أن يكلّف نفسه عناء الغوص في مضمرات ما لا تراه العين العابرة على المعنى كما يعبر الشّعراء على ثلج اللغة اللافح: الحزينُ في كلّ هذا / أن تكونَ الشجرة والفأس في الوقت ذاته / والفراشة والنار... / والحقل والجدب / وجلد حسناء والجرب تشابهٌ يؤسّس للحزن في أبهى حالاته وأقساها، لأنّه مؤسّس على الحزن، ولأنه تشابهٌ رهيبٌ ومرعبٌ لا يراه الشُّعراء لكثرة ما يحاولون الضغط على فأرة المعنى المأسورة، على حين غفلة منها، تحت أيديهم المرشحة للإمارة حدّ الاختناق من كثرة ما تفرز هذه الأيدي من رطوبة تقتل التخييل و تصيب اللغة بداء الرّبو المزمن. -3- لماذا تفرض عليّ نفسي القلقة المنحدرة من ذاتي القلقة، و هما تحرنان أمام النصوص التي يكتبها عادل بلغيث، أن أصدّق عادل بلغيث وهو يتحدث عن "شاغال" كما لو أنه ولد في بلاد البياض التّائق للألوان، أو كما لو أن (شاغال) ولد في تبسة، ولا أصدق فنانا مغرورا يعتقد أن من كان أقرب إلى الشاطئ ميلادا ومعيشةً وتكوينا هو أكثر ثقافةً ووعيا ممّن قدّر لهم أن يولدوا، كما عادل بلغيث، في البراري الأخرى المرميّة في أطراف هذا الوطن الكبير الممتد من الحرف إلى الحرف، ومن الجرح إلى الجرح، والشبيه في صورته الثابتة بالصحراء القاحلة التي ننبت منها جميعا، ما عدا بعض المحظوظين، حيث [ لا شيء لأكتبه..]، وحيث لا يتأتى إلا خيار (إما.. أو..) كما يلوّح بها فلاسفة الشمال الوجوديون؟ الأنّ ما يحمله نص عادل بلغيث أبلغ حجة، في نظر لحظة القراءة الممزوجة بصفاء النيّة كما يقول الدّراويش المجاذيب؟ ألأنّها أعمق تأثيرا من كلّ الخطابات الإبداعية المعلّبة التي تسكن النصوص الأخرى- على الرغم من أن كلّ النصوص هي نصوص أخرى بالنظر إلى النّصوص الأخرى-، نظرا لما يبديه الشاعر من انفتاح معرفيّ على عالم التشكيل، وما ينتجه من شراهة في التهام ما يراه جمالا خالصاً لأنّ هذا الجمال الخالص هو المغذّي الوحيد لجوع الذات الباحثة عن مُستند جماليّ أصيل؟ أم أنّ ثمة صدقا نادرا يسكن نص عادل بلغيث، أي ذاته، إذ لا فرق في حالة عادل بلغيث من النص والذّات، ولذلك فإن هذا الصّدق يعبّر - أو يحاول أن يعبّر بإمكاناته الفنيّة والجمالية - عمّا يحقّقه النص من حفْرٍ مستمرٍّ لذاتٍ شعريةٍ متروكةٍ ككثير من أقرانها إلى غبار المرحلة، والمستعدّة إلى الاستناد إلى الحائط، حائط الوجود الهشّ، كدليل على استعدادها للبقاء طويلا في غابة اللغة للتأمّل في ما تعانيه الذات من بطالة وجودية لا تضرب الشعراء المكرّسين، خوفاً من أن تقع بلاغاته المستفزّة على اللوحة التي يرسمها الشاعر في مخياله كما يرسم الطفل طائرةً، ثم سرعان ما يقتنع ويقنعك أنه حلّق بها ذات ليل أدهم: وإلى -هنري ماتيس- أقولُ: الإنسانُ كألوانكْ / قانٍ، باهتْ، فاتحْ، داكنْ، ناصعْ / أنسيت بلوحاتك ليلك؟ / أم كل الألوان الواهجة دمٌ لسواد لامع؟ يتحدث عادل بلغيث عن الفنانين التشكيلين في قصيدته (التي يكتبها دائما..)، من خلال استضافتهم في بنية النص، حيث لا يمكن للحساسية المفرطة التي يتمتع بها إلا أن تتحالف مع من يدعم رؤيتها الغامضة في نظر القراء المتشابهين، وكأنه قضى معهم طفولته في حيّ من أحياء مدينة مولده، أو كأنه التقى بهم في عقبة من عقبات الحياة فمدّ أحدهم إليه يده لينتشله من عمى الألوان الضارب بقناعاته في مجمل ما يطّلع عليه من أبنية نصيّة متشابهة. ولعلّه لذلك يبدو وكأنه أكثر اقتناعا بلا جدوى قراءة هذه النصوص من خلال ما يبديه من ثقة، تبدو زائدة في نظر من يغبطه، في رؤية يعتقد أنه جدير بها وحده، وأن هذه النصوص الجاثمة بسوادها في متن المدونة الشعرية الجزائرية المعاصرة لا يمكن أن تحقّق إلا نادرا ما تطمح ذاتُه الشعرية إلى تحقيقه من سبْقٍ جميل في إعادة بناء الفكرة التي يحملها عن الشعر، أو الشعر الذي يحمله عن الفكرة، أو القصيدة التي يحملها الشعر والفكرة عنه هو: صباحًا... أقطع أشجار القلبِ / لأبني بها بيتًا ...بيتًا في القلبْ ولعله لذلك تبدو نصوصه وكأنها "تتمرجع" في بنيتها العميقة من غير مرجع هؤلاء المتشابهين، لأنها تتبضّع بمرارة من "سوبر ماركت" الدهشة المصطفّة في الأرصفة والموزعة على حوانيت الطّفولة، لكي يغذي بها هذا الخيال الجائع إلى مزيد من التسكّع، مشيًا على السؤال، وحيث لا إجابة جاهزة، في بركة الوجود الشاسعة: كم زورق ماءٍ في الماءْ؟ / كم مهد مياهٍ في بيت الماءْ / من زُفّ من الأنثى الماءِ إلى الذّكر الماءْ؟ / من ثار من الماء على عطش الماء؟ْ / كيف تهشم صخر من فأس الماءْ؟/كيف تفجّر ماء من قبر الماءْ؟ -4- ربما كان في الشعرية الجزائرية المعاصرة ما يدعو إلى التأمل في ما تنتجه من أسماء تنتج نصوصا على غير ما تعوّدت عليه الأذن النّاظرة. وربما كان فيها ما يدعو إلى التفكير في إعادة ترتيب منجز المدونة المُسَوَّدة من طرف الشعراء الكثيرين، إلا ما يحوز عليه الاستثناء الدّاعم للقاعدة من صدقيّة الاستشهاد، وعفوية التدليل، وعقلانية المحاججة. وربما كان فيها ما يتجاوز فكرة |«قتل الأب"، وما يفنّد أطروحة "يتم النص"، وما يكذّب "أكذوبة الاختلاف" وما يسخر من "بؤس الإيديولوجيا"، وهي التّيمات الطاغية التي طالما حاول نقادّ الشعر الجزائريون، على قلّتهم، أن يأسروا فيها هذه الشعرية وكأنها أقفاص من ذهب خالص لابد للشعراء أن يدفعوا ثمن الفوز بسعادتها. وربما فتحت الشعرية الجزائرية المعاصرة لنفسها لحظة صدق خارقة للعادة كما، في نسجها للنصّ مع ما تقترحه على القارئ من أسماء جديدة- و ليست شابة لأن العبرة ليست بالسن- ليس عادل بلغيث أقلّها جرأةً، ولا أقلها تجريبا في محاولته الكتابة بوعي، ولكن بدون حيلة جاهزة تأسر المخيال في مُسْبَقات ما عانت منه هذه المدونة طيلة سنوات: أنا مازلتُ كالقتيل، / الذي لم يجده أحد.. / والذي تخفق الآمال كي يعود / ماشيا على قدمين كتابةٌ لا تنطلق من خلفية، على الرغم من أنها تعيها، ولا تدّعي التأسيس للاكتشاف، على الرغم من أنه يسكنها، ولا تدّعي الوصول إلى القناعة الدّاخلية بتطويع النص والانتصار عليه، نظرا لما يعتريها من شكّ في ما تكتب، وما يكتنف لغتها من قلق يصل إلى درجة الارتباك اللغوي، في ما تنسج فتعيد فكّ ما تنسج، نكاية بالمكوثية التي تطبع رتابة "ما يُكتب"، لتعيد نسجه من جديد، وفق ما يمليه التجريب السيزيفيّ، بما تعتقد أنه الأجدى بالفكرة التي تحملها عن القصيدة.