نقل عن اللواء عبد الغني الهامل (المدير العام للأمن الوطني) أنه انفجر غاضبا في زيارة قادته إلى ولاية بسكرة (ديسمبر 2010) عندما قدم له المسؤولون إحصائيات عن عدد المخالفات و عدد حالات سحب الرخصة و غيرها للتدليل على نشاطهم في الميدان ... فقال لهم المدير العام فيما معناه أنه كلما زادت هذه المخالفات فإنكم تدللون بها على فشلكم في نشر التوعية و التحسيس و نشر الثقافة المرورية و كان الأولى بكم العمل على التقرب من المواطنين و تبسيط فهم قانون المرور أمامهم. طبعا نحن هنا لن نبخس الشرطة و الدرك مجهوداتهم حتى لا نتهم بذلك بل نحترم فيهم أنهم لا يتوانون في المشاركة في أي تظاهرة من شأنها التوعية و نشر الثقافة المرورية بل و نسمو بالشرطة و الدرك الجزائريين عن النزول إلى منزلة المطاردة بين القط و الفأر و ننزههم هنا أيضا عن الانشغال برفع حصيلة المخالفات إلى مسؤوليهم و ضبطها في شهر ديسمبر من كل سنة !! و لكن حتى لا تتحول هذه الحملات إلى مهرجانات تطبعها المناسباتية و حتى لا تتحمل "الشرطة و الدرك و الوسائط الإعلامية" لوحدها وزر نقص التوعية ... كان لابد لنا من أن نغوص في العمق من أجل فهم الأسباب الحقيقية وراء وقوع هذه الحوادث التي جعلت الجزائر تتبوأ مقدمة الدول بعدد ضحايا الطرقات من آلاف القتلى و الجرحى و ذوي العاهات المستديمة. مشرّع يكرس منطق العقاب و فقط إن المشرع الجزائري في جل القوانين يسعى لتكريس العقاب و كلمة عقاب هنا تشمل السجن النافذ و غير النافذ و الغرامة المالية و العقوبات الإدارية و غيرها ... لذلك لا نعجب حين نجد على سبيل المثال وزيرا في الحكومة يبشر قطاعا معينا من المهنيين بحذف عقوبة الحبس و تعويضها بالغرامات المالية الضخمة التي تعني في النهاية الحبس في حالة عدم الدفع. إن المشرّع الجزائري يجيد العقاب و لا أدل على ذلك من عقاب "الحرّاقة" بالحبس رغم ما تمثله حالتهم من تراجيديا جزائرية خالصة لشباب فقدوا كل أمل في الاستقرار و تكافؤ الفرص. و الأكيد من خلال الغوص في ثنايا العديد من المواد القانونية أن القانون وضع من أجل العقاب و ليس الردع و فرق كبير بين مادة قانونية تعاقب و مادة قانونية تردع ... فمثلا الغرامة المالية أو الحبس النافذ لمدة ثلاثة أشهر هي نوع من العقاب المالي أو البدني و أما المادة التي تعتبر رادعة فهي تلك التي تعتبر أن عدم إصلاح مكابح المركبة نوعا من الشروع في القتل و يجب أن يتم تكييف تهمته على أساس جناية ساعتها سيفكر ألف مرة و مرة السائق قبل ركوبه سيارته و هي بهذه الأعطاب. و كنوع من التمرين لمن لديهم إلمام جيد بتفاصيل قانون المرور فليزودونا بعدد المواد التي تتضمن بنودا عقابية (غرامة و حبس و سحب الرخصة و حظيرة حجز و غيرها إن وجدت) و نسبة هذه المواد بالنسبة إلى عدد مواد القانون في حد ذاته. "التاغنانت" الجزائرية أمام مِقود السيارة و فوق الدوّاسة و تحت المكابح إن الجزائري معروف عنه بأنه عصبي و لكن هذه العصبية لا يجب أن تعطينا انطباعا سلبيا عن الجزائري لأن الأمر يعود ببساطة إلى الجانب العاطفي كون الجزائري "لا يحب الحقرة" و هو "متعطش للعدالة المطلقة" و لعل ذلك متغلغل في الضمير الجمعي للمجتمع الجزائري و هو بالضرورة يعود إلى الفترة الطويلة التي قضتها الجزائر تحت ظلم و استعباد المستدمر الفرنسي، و عندما نقول أنه لا يحب الظلم و الحقرة فهذا لا يعني أن الظالم يأتيك بعصا و يضربك بها دون سبب ... بل إن الجزائري أذكى من ذلك بكثير و في مستطاعه أن يفهم بمجرد الغمزة و الألف دون الهمزة، إذ أن الجزائري يرى مثلا في انتقائية تطبيق القانون نوعا سافرا من أنواع الحقرة المقيتة. و ما أشبه اليوم بالبارحة فقد قالها "محي الدين عميمور" - أطال الله عمره - سنة 1971 "مازلت أقول بان أزمة المرور الحقيقية ناتجة من أن المكلفين بمراقبة المرور و حماية المواطنين من بعض المواطنين ... هؤلاء لا يقومون بواجبهم على الوجه الذي يكفل النظام و يحفظ الأمن". و قالها الراحل الدكتور "أبو العيد دودو" في بداية الثمانينيات على لسان السائق المتهور "إني لا اعترف بقوانين السير، و لا يمكنني أن ألتزم إلا بالقانون الذي تمليه علي عظمتي، و قانوني السرعة، و ليس للعاصفة إلا أن تهب بقوة و عنف، أما قوانين السير فهي تحد من اندفاع الصقر". و قالها الراحل "أحمد الطيب معاش" في ثمانينيات القرن الماضي في وصف جميل يمكن إسقاطه على نفسية الجزائري الذي يكره الحقرة " ... فالصمت كان جميلا عندما كان كل شيء جميلا .. أما الآن فهو قبيح عندما غدا كل شيء قبيحا.. و إذا كان القبح شيئا لابد منه فليكن اختيارنا أو اضطرارنا أو قدرنا هو قبح الكلام لأن هذا أفضل بكثير من قبح السكوت و الخضوع و الخنوع في وقت تكلم فيه حتى الحجر". و ها أنذا أقولها و أصرخ بملء فمي " يا مسؤولينا أنتم أسوء قدوة للجزائري لأنكم ترون أن الرتبة تعفيكم من الرضوخ للقانون بالحصانة و الزمالة و البزة... و هذه هي الحقرة بعينها التي يشعر بها الجزائري حينما يرى جزائريا آخر مثله يعطل القانون من أجله بسبب أنه "كوليق" أو بمجرد إبرازه لبطاقته المهنية ... لقد انهارت القيم المجتمعية بسبب سلوكاتكم المتعجرفة و استثناءات قوانينكم و استدراكاتها المتكررة ... لقد انهارت القيم عندما احتكرتم جزءا من الطريق و بخط أزرق تمرون من خلاله علينا مرور السهم بينما نحن قابعون في وسط الزحام لا لشيء سوى أنكم في أوبتكم إلى البيت مثلنا". خطاب تحسيسي أجوف من لدن فناني "البوراك" و "الشربة" و المشكلة لا تقتصر هنا حول نفسية السائق الجزائري و الطابع العقابي للقوانين التي تضعها السلطة التنفيذية (في غياب المبادرة من لدن السلطة التشريعية) بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله إلى الجانب التوعوي و الطريقة التي بها يتم تسجيل هذه الومضات التوعوية ... و هنا استحضر تلك الومضة الإشهارية التي كان يؤديها فنان مفروض على الجزائريين يدعى "حميد عاشوري" حيث يجلس بالقرب من سائق و يبدأ في الصراخ و رفع الصوت كلما تقترب سيارة ... ترى هل نستطيع إقناع الجزائري بتجنب إزهاق روحه و أرواح الآخرين ( و هو أمر جدي جدية هادم اللذات مفرق الجماعات) بواسطة فنان "البوراك" و "البوقالات" و الكوميديا المبتذلة؟؟ ... حبذا لو كانت هذه الوصلة التحسيسية من أداء الفنان القدير "عثمان عريوات" أو الفنان القدير "عنتر هلال" لما يملكانه من أدوات إقناع و ملكة تمثيل و صوت ينبع من عمق المجتمع الجزائري يفهمه و يقتنع به كل حامل رخصة سياقة متعلماً كان أم أمياً. إن الخطاب التحسيسي و التوعوي الذي تتناوله مختلف وسائل الإعلام الجزائري حول حوادث المرور مبني على أساس التخويف و التهويل و هو خطاب ينظر إلى الجزائري نظرة قاصرة ... و لا عجب إذا وجدنا مثلا ومضة إشهارية أخرى في قناة اليتيمة ترى فيها سيارة محطمة و زجاجا متناثرا و دماءا و شخصا مغطى برداء ابيض مُلئ بالدم ثم قاعة عمليات و صوت نبضات قلب و أجهزة إنعاش و غيرها. إن الخطاب التحسيسي في الجزائر بصفة عامة مازال لم يتخلص من استصغار الجزائري على شاكلة "يا وليدي تروح تلعب عند شفر الحاسي يدحيك الشيطان" على الرغم من أننا متواطئون مع الشيطان في عدم وضع الغطاء على الجب. و هذا يعود طبعا إلى أننا مازلنا لم نصل بعد إلى ما وصلت إليه الدول المتطورة في مجال الاتصال و لغة الاتصال التي لا تعتمد على الاعتباطية في الخطاب الموجه إلى الجمهور بل يتم فيها استشارة النفسانيين و علماء الاجتماع و اللسانيات و أخصائيي التسويق من اجل مردودية أكبر و تأثير أوسع للرسالة الإعلامية. و يبرز لنا هنا مشكل آخر في الاتصال و هو الاعتقاد السائد لدى الكثيرين (و حتى الصحفيين) بأن الرسالة الإعلامية يدخل في إنتاجها و بثها الإعلاميون و فقط ... و هو اعتقاد مجانب للصواب طبعا لأنه ينفي عن المتلقي ملكة التفكير و قبول الفكرة من رفضها فضلا عن الاقتناع بها و ربما أبعد من ذلك من خلال معاملة الإنسان كآلة. و حتى الأطفال الصغار يجب أن لا ننظر إليهم على أنهم لا يفهمون لأن الدراسات النفسية الحديثة قد أثبتت أن لديهم قدرة رهيبة على التفكير و التحليل و المقارنة و ربط الأحداث و قراءة سلوك الكبار و لا تعوزهم للتعبير عن ذلك سوى الكلمات التي لم يتعلموا نطق حروفها فقط. لعل أحسن ومضة اشهارية توعوية حول حوادث المرور هي تلك الومضة التي كانت تبثها قناة "أل بي سي" اللبنانية حول ضرورة وضع حزام الأمن ... و الأكيد أن واضع تلك الحملة التوعوية المتلفزة يعرف جيدا نفسية السائق و كيف أن عنفوان الشباب و سرعة المركبة قد ينفخان فيه لذلك نراه يعتمد أسلوب الإقناع و ذلك بوضع دمية في حجم إنسان داخل سيارة ثم ربط الدمية بحزام الأمن و تجهيز السيارة بعدة كاميرات تسجل بدقة و من كل الجوانب حركة الدمية من الداخل بعد أن يتم رمي السيارة من مرتفع شديد الانحدار ... الكاميرات الخارجية بالتوازي مع الكاميرات الداخلية تنقل لنا حادث سقوط السيارة عبر المنحدر بالتوازي مع الحركة الداخلية للدمية و التي لا تصاحبها أية ارتجاجات و لا اهتزازات بفضل حزام الأمن. طبعا إن كل من يشاهد هذه الومضة التحسيسية سوف يقتنع حتما بأهمية ربط حزام الأمن و الجزائري و إن كانت تطبعه "التاغنانت" فانه في المقابل سهل جدا إقناعه بما هو معقول فقط الابتعاد عن لغة التهديد و الوعيد و التهريج و معاملته كالقاصر. ثلاثية ... رباعية ... خماسية لا يهم ... فالكل مسؤول و الكل معني إن الحديث عن المشرّع و المواطن و الوسائط الإعلامية فقط في سبيل التقليل من حوادث المرور هو عين الإجحاف ... ذلك أن أطرافا أخرى تتدخل في التوعية و لها علاقة مباشرة بما يقع في طرقاتنا. نتساءل و بكل براءة هل يوجد في الجلفة مثلا "فرع للهلال الأحمر الجزائري" ؟ و إذا كان موجودا هل هو ناشط في الميدان؟ و أين نحن من حملة "مسعف في كل بيت" التي تعني مسعفين في الطرقات و مسعفين في المصانع و مسعفين في الأسواق و مسعفين في كل مكان. الهلال الأحمر الجزائري و بمعية الحماية المدنية يتحملون مسؤولية كبيرة في انحصار عدد المسعفين لا سيما في البلديات بالجلفة (لاحظوا أن اغلب ضحايا حوادث المرور في الجلفة ينتمون إلى البلديات) ... لماذا لا تكون هناك دورات دائمة للتكوين كلما توفر فوج بيداغوجي من عشرين راغب في التكوين؟ ... السؤال موجه إلى فرع الهلال الأحمر الجزائريبالجلفة و مديرية الحماية المدنية. مديرية الأشغال العمومية بالجلفة ... تتحملون قسطا كبيرا من المسؤولية و أنا هنا لست لأذكركم بمهامكم و لكن بصفتي مستعملا للطريق الوطني رقم 46 باتجاه الشرق ... أعيد طرح السؤال الذي طرحته عليكم في تعليق سابق لماذا لا تضعون "التيف" على ضفتي هذا الطريق باتجاه الشرق؟ حتى تتمكن الجرارات الفلاحية من السير و حتى تتمكن حافلات النقل البلدي من التوقف للمواطنين و تجنب البحث عن معبر في الطريق من أجل ركن السيارة ... للموضوع متابعة فيما يتعلق بالطريق الوطني رقم 46. أصحاب مدارس السياقة ... تستحقون أيضا أن أفرد لكم موضوعا خاصا بكم !! مديرية النقل ... مازلنا ننتظر مخطط المرور في الحواضر الكبرى و لعل أكبر دليل على عدم جديتكم في الأمر هو أن الطريق التي تختزل المسافة من الجلفةالجديدة إلى حي السعادات مازالت تجوبها المركبات في الاتجاهين و لا ننسى هنا موقف السيارات النفعية القريب من عيادة التوليد بحي عين الشيح و غير ذلك من مظاهر غياب مخطط مروري يحترم الحواضر و سكانها لتبقى الممهلات هي الحلول السهلة إلى أن تنزلوا إلى الميدان و تتفضلوا علينا بحلول تقضي على جانب كبير من المخالفات في الوسط الحضري.