يبقى جزء كبير من ذاكرة الفاتح نوفمبر المجيدة أسير الأدراج الفرنسية، يخزّن بعيدا عن أصحاب الحق والورثة الشرعيين، في ظل استمرار تهرّب فرنسا في الإفراج عن الأرشيف الجزائري بذريعة واهية، وحجّتها في ذلك أن قانون »التحفظ« لا يسمح بفتحه أمام المؤرخين، ووضعه تحت تصرّفهم إلاّ بعد انقضاء 60 سنة. وفي ظلّ التردّد الفرنسي وعدم وضوح نواياه وجديّته من عدمها، يبقى الجزائريون يرفعون مطلبهم الشرعي الذي يحرج كثيرا فرنسا في الإعتذار عن جرائمها الإستعمارية، وتعويض ضحايا المجازر الرهيبة ويلحّون على ذلك لتجسيده في أقرب وقت. وفي ظلّ التمسك الجزائري باسترجاع الأرشيف الموجود في حوزة فرنسا، بإمكان الجزائر إيلاء عناية أكبر بكتابة التاريخ الثوري المجيد، وتلقينه للأجيال بالإستعانة بشهادة الصانعين الذين مازالوا على قيد الحياة حتى لا يطاله النسيان والتزييف وإخفاء الحقائق، لا سيما أنّ الجرائم الاستعمارية الرهيبة المقترفة في حق شعب أعزل من نهب وتنكيل وإبادة، لا يمكن للتاريخ الجزائري والإنساني أن يسكت عليها ويصمت عن فظاعتها، وتبقى راسخة في الذاكرة الجماعية للأمة والأجيال تستنبط منه العبر وتستمد منه إرادة رفع تحدي في المسار التنموي للدولة الجزائرية المستقلة. وعلى اعتبار أن حصة الأسد من الأرشيف الثوري الجزائري وكل ما يعنيها من ذاكرة يوجد بعيدا عن عيون المؤرخين، وفي حالة أسر مخزّنة عن الأنظار من طرف فرنسا، فهي الوحيدة المسئولة عن إطلاق سراحه في أقرب وقت لأنه ليس من حقها الإبقاء عليه في ذمّتها، فهو يعني الجزائر وحدها بالدرجة الأولى، لأنها الضحية ومحرّكة وصانعة للأحداث التي جهرت بصوت مرتفع في وجه أعتى مغتصب للأرض والحرية والسيادة في آن واحد، ولا يحق للسلطات الفرنسية كما تحاول إيهام الرأي العام أن هذا الأرشيف من حق فرنسا كون الجزائر كانت مستعمرة فرنسية. إذا تنقضي أكثر من خمسة عقود ونصف من عمر ثورة التحرير المجيدة، دون استعادة ما يظمأ عطش الذاكرة الجزائرية ويفتح ورشة كبيرة للمؤرخين الجزائريين لتسجيل الحقائق، وتوثيق الوقائع حية بعيدا عن التحريف والتزيف والحذف، حتى نعطي للثورة حقها وننصف صانعي الثورة من شهداء ومجاهدين، وحتى متعاطفين من داخل وخارج الوطن، لأنه من حق الشعب الجزائري والأجيال المقبلة أن تكون على دراية بكل صغيرة وكبيرة عن تاريخ ثورتها، ويزول الخوف القائم من رحيل الجيل الصانع للثورة، الذي مازال يكتم بداخله الكثير من الشهادات التي تحتاج أجيال الإستقلال إلى الإستماع إليها حتى نؤرّخ بجدية ودقّة لمرحلة حاسمة من تاريخ الجزائر، ولا نترك غيرنا يكتب عن ثورتنا، لأننا نحن أصحاب الحق. ويجب أن تظلّ المطالبة بالأرشيف قائمة على جميع الأصعدة من طرف الجزائريين، خاصة وأن فرنسا مازالت تراوغ وترفض الإعتذار والإعتراف بالجرائم الاستعمارية البشعة، وتستحي من عارها الإستعماري. لذا تتحفظ على الأرشيف وتعتبر ملفاته ضمن الملفات السرية التي تخصّها وحدها، وليس من حق ضحاياها الإطلاع عليه. لكن من المفروض أن زمن العهد الإستعماري ولّى وانقضى ما يكفي من الوقت ليخوّل للمؤرّخين العودة للوقوف عند أدراج هذا الأرشيف، الذي يحكي قصة صمود الثورة الجزائرية التي تعرضت لكل ألوان البطش والترهيب. وليس صحيحا أن فرنسا وحدها من تملك استثناء احتكار الأرشيف للمداراة عن الجناة والسفّاحين، تاركة لهم المجال في الفرار من مرآة التاريخ الفاضحة، ومحاولة طيّ صفحة الحقيقة وفتح المجال لرواية الحقائق التاريخية بنظرة ذاتية أحيانا، تعمل على تعميق نزيف الجرح وتشوّه الحقائق بعد تحريف مجراها الحقيقي، على غرار محاولة التأكيد وإيهام الرأي العام بأن للإستعمار وجه حضري، لاغية الآلة الإستعمارية الرّهيبة التي تمارس التقتيل والترهيب والبطش والتعذيب والتجويع والتجهيل. ورغم الخطوات التي قطعتها الجزائر في مسار المطالبة بحيازة أرشيفها الموجود في الضفة الأخرى وفي عقر دار من استعمرها بالأمس، يجب الإستمرار في التشبث بهذا الطلب، وتفعيل الجهود الرامية لاستعادته كاملا غير منقوص، في ظل استمرار رفضها تسليم الأرشيف العثماني والأرشيف الخاص بتجاربها النووية في الصحراء الجزائرية، علما أن الأرشيف المسلّم للتلفزيون الجزائري سنة 1862 يتمثل في شريط سمعي بصري يعود إلى الفترة الاستعمارية التي تمتد من سنة 1940 إلى غاية 1962، وبعض الصور عن الأيام الأولى من فرحة الإستقلال ومشاهد عن الحرب العالمية الثانية. ويتّفق المؤرّخون أن أهم أرشيف وعلى كثرته مازال محتكرا ومخفيا من طرف فرنسا، وعدا ذلك ويقصد به ذلك الموزّع على الكثير من دول العالم قليل ومكمّل للذاكرة الثورية الجزائرية سجينة التحفظ والتهرّب الفرنسي.