أقام عدالة اجتماعية وبنى قاعدة صناعية خطاباته مصدر إلهام لأجيال كاملة تميزت فترة حكمه ببروز الجزائر كقوة مغاربية، عربية وإقليمية صنعت الفارق في كثير من القضايا الدولية، هو صاحب مقولة «الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة»؛ إنه هواري بومدين أو محمد بوخروبة، الإسم الحقيقي للرجل، الذي صنع من الدولة الفتية ندّا لقوى كثيرة في العالم. من إنجازاته، عدالة اجتماعية وقاعدة صناعية صلبة، ومشروع تعريب الإدارة الجزائرية. ركز بومدين في مسيرته على تكوين نشء قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، شخصيته فريدة، بشهادة كل من عاصره وعمل معه بمن فيهم معارضوه الذين يشهدون له بذلك. «الشعب ويكاند» تتوقف عند الرجل الرمز وخطابه السياسي، الذي شكل بكلماتها والتراكمات التي أوجدتها في الوعي الجمعي، مصدر إلهام لأجيال كاملة مازالت تصدح في أذهان الجزائريين، وتفتخر بها أجيال اليوم لتجعل منه الزعيم الحي في ذاكرة الجزائريين والأمة العربية على حد سواء، خصوصا وسط ما تعيشه المنطقة من خنوع وانتكاسات وهرولة نحو التطبيع... مست خطابات هواري بومدين مختلف جوانب الحياة السياسية، الإجتماعية والإقتصادية التي تخدم الوطن، من بينها خطاب ألقاه بومدين في الذكرى الرابعة لعيد الإستقلال 5 جويلية 1965، في نداء وجهه للشعب تحدث فيه عن الحكم الفردي وانعكاساته السلبية، مبيّنا الانحرافات الخطيرة، التي اتسم بها هذا النوع من الحكم. وعن العدالة الاجتماعية يُبين بومدين، أن الدولة الجزائرية ستمنح فرصة التعبير عن إرادته ليتمكن من اختيار دستوره، الذي ينبغي أن يتماشى مع مبادئ الثورة المجيدة. وتحدث عن كيفية تحويل اقتصاد البلاد بالقول: «ينبغي أن نهيّئ، ضمن الإتجاه الذي اخترناه، ظروف الأمن والثقة، التي من شأنها أن تضمن لنا زيادة ملحوظة في استثمار رأس المال القومي». في هذا الصدد يقول الكاتب والإعلامي محمد بوعزارة، في أحد لقاءاته، إن ميزة خطب الرئيس الراحل بومدين، التي جعلته محبوبا شعبيا وصارت فئات من الجماهير تنتظر خطبه بلهفة، بما في ذلك وسائل الإعلام الدولية التي تنتظر بشغف خطبه وتبرزها في قنواتها وتنشرها على صدر صفحات صحافتها الأولى. هنا يذكر أن رئيس تحرير صحيفة «القبس» الكويتية، اتصل بصحيفته بعد سماعه خطاب الرئيس بومدين وطلب من هيئة تحرير الصحيفة أن يكون عنوان صفحتها الأولى هو عبارة للرئيس: «الناس لا يدخلون الجنة وبطونهم خاوية». وكان لخطابه الشهير بالجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاريخية برئاسة الجزائر، أفريل 1974، تأثير كبير، حيث طالب الدول بضرورة تغيير العلاقات الدولية وصولا إلى نظام إقتصادي دولي جديد أكثر عدلا وإنصافا لدول الجنوب. كان الخطاب من أقوى الخطابات برؤية استشرافية. اهتم الرئيس الراحل بومدين بالطبقة الشعبية، نلمس ذلك في مثل خطابه «نفتخر بديمقراطيتنا التي حررت الفلاح وأعطته الأرض، نفتخر بهذه الديمقراطية التي ألغت الضرائب على الفلاح، نفتخر بهذه الديمقراطية التي صنعت البلاد وسنّت مجانية التعليم والطب لكل أبناء الوطن، نفتخر بديمقراطية بناء الجامعات والمدارس والمعاهد في كل جهات البلاد، نفتخر بديمقراطية أن لا سيّد في هذه البلاد وأن الشعب هو السيد». وخطاب آخر، «حاولنا الإهتمام بالفلاح، لم نقل له أننا أسيادك أو أمراء عليك، نعرف مشاكله وصعوباته وإحساسه، نحن أبناء الشعب وفي خدمته». بومدين أرجع كرامة الجزائري في الداخل والخارج، خاصة العمال الذين يشتغلون بفرنسا، الذين قال فيهم وعنهم: «في المدة الأخيرة اتخذنا قرارا وقلنا ما لم تتوفر شروط الأمن في فرنسا، وما لم تتوفر شروط الكرامة بالنسبة لعمالنا بفرنسا، لن يبقى جزائري يخدم في فرنسا، إن شاء الله نأكل تراب هذه الأرض». موقفه من قضية الصحراء الغربية كان واضحا، وكان بومدين مع الحل السلمي، قال ذات يوم: «الجزائر تبقى دائما على استعداد، اليوم وغدا وبعد غد، للمساهمة بالطرق السلمية في إيجاد الحلول لكل مشكل يطرأ في منطقتنا، ونحن على استعداد أن نساهم ولو بنصيب محدود في حل هذا المشكل الدامي، مشكل الصحراء الغربية. وقد أعلنا عن استعدادنا مرات ومرات لحضور المؤتمر الإفريقي لمعالجة هذه القضية. فالجزائر انتهجت وتنتهج طريق الشرعية الدولية وسنبقى سائرين في هذه الطريق، وسيبقى دائما شعارنا العمل واليقظة، العمل من أجل تدعيم الثورة واليقظة من أجل الدفاع عن الثورة». اتبع الرئيس الراحل هواري بومدين، بعد توليه رئاسة البلاد سنة 1965، سياسة دبلوماسية اتسمت بمؤازرة ومساندة القضايا التحررية في العالم، ومناهضة بقاء الاستعمار. ناصر بومدين القضية الفلسطينية، وبسبب هذا الموقف شاركت الجزائر في حربي 1967 و1973. في خطابه بتاريخ 06 جوان 1967 يؤكد الرئيس الراحل هذا التوجه بقوله: «...في هذه الدقائق الخالدة وهي الدقائق الحاسمة وأنتم على أهبة السفر جاهزين للرحيل من الجزائر التي هي قطعة من الوطن العربي للتوجه للدفاع عن قطعة أخرى من الوطن العربي، ألا وهي فلسطين وهذه هي المرة الثانية وفي مدة قصيرة جدا آخذ الكلمة للتعبير عن وجهة نظر الشعب الجزائري والثورة الجزائرية تجاه هذه الأحداث الخطيرة التي يعيشها الوطن العربي. إن هذه المؤامرة دبرت قبل اليوم وظهرت للعيان وظهرت نتائجها للعالم أجمع... إنكم تتوجهون إلى قطعة من أرضكم سلبها الصهاينة. إن الوقت ليس وقت كلام بل وقت تجنيد وعمل، والجزائر واقفة إلى جانب العرب في القاهرة أو في دمشق أو في أي مكان من الوطن العربي. أنتم بصفتكم طلائع أولى لشعب لم يطأطئ رأسه طيلة الأجيال وأنتم بذهابكم إلى المعركة ستدافعون عن فكرة سامية، ألا وهي القضاء على قاعدة الاستعمار وعلى خنجر في قلب الأمة العربية... إنكم تحملون مجد الأمير عبد القادر ومجد جيش التحرير، ومجد المليون ونصف شهيد ولابد أن تشرفوه...». العربي الزبيري: الرئيس الراحل كان يشعر بمعاناة الفقراء يقول الدكتور العربي الزبيري، في شهادة ل «الشعب ويكاند»، إن الرئيس بومدين كان يحب العمل ويحترمه الكثيرون. إهتم بالطبقة الشعبية الضعيفة وأحس بمعاناة الفقراء قائلا: «بومدين ينتمي لعائلة فقيرة، كان يدرس في مدرسة الكتانية ويروي لي محمد خيضر الذي كان في القاهرة وكان عضوا في هيئة الاتحاد المغاربي، أنه هو من تبنّى بومدين وأنا الذي وجهته للقيام بتدريب عسكري، لأن جامع الأزهر بالقاهرة لم يقبله». ويؤكد المجاهد مسعود نملة بالولاية التاريخية الثانية - الشمال القسنطيني ل»الشعب ويكاند»، أن الراحل ساهم خلال قيادته لأركان جيش التحرير الوطني من 1959 إلى 1962 في تنظيم عسكري محكم للولايات التاريخية الست للثورة التحريرية المجيدة، فضلا عن مساهمته في تكوين جيش احترافي خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال. بوحوش: ميزة بومدين القراءة والتدقيق يروي الباحث والأكاديمي وأحد قدماء الطلبة المسلمين الجزائريين بالولايات المتحدةالأمريكية عمار بوحوش ل»الشعب ويكاند»، أن ما لاحظه حين كان موظفا في إدارة الإعلام برئاسة الجمهورية، هو مواظبة الراحل بومدين على القراءة ولا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ويستفسر عنها، فكل التقارير التي تقدم له يقرأها بدقة وتمعن وهذه ميزة لا تتوفر عند بقية الرؤساء الذين أتوا بعده، قائلا: «بومدين كانت له الرغبة في القراءة والتعرف على كل أمر، عكس الشاذلي بن جديد الذي يعقد اجتماعات وتقدم له التقارير». وأبرز بوحوش الاحترام الذي كان يوليه الراحل بومدين للصحفيين، حيث يجتمع معهم وخاصة التلفزيون، قائلا: «التلفزيون في عهد بومدين كان نشطا، كان يقدم برنامج الحديقة الساحرة المخصص للأطفال والثورة الزراعية التي يقدمها أحمد وحيد. التلفزيون كان أداة للإعلام والتوجيه وإطلاع الرأي العام على ما ينبغي أن يعرفه عن مسيرة الحكومة». وأكد المتحدث أن بومدين لم يكن ديكتاتورا عكس ما روّج له معارضوه، فلم يكن يحاسب ما ينشر في الجرائد، مشيرا إلى أن الراحل كان ضد أن يسير حزب جبهة التحرير دواليب السلطة كي لا يخلق الفوضى، الحزب لم تكن له سلطة بعد وفاة بومدين، مشيرا إلى أن الحزب برز كأداة للسلطة. ويضيف بوحوش: «بومدين عاش محروما ولهذا اهتم بالفلاحين، فهو له ولاء وإخلاص لمساعدة المحرومين ليأخذوا حقهم بحصول الفلاح على الأرض والطلبة يدرسون. عنده الروح الشعبية لإعانة الضعفاء ودعمهم موجودة في ذهنه، بومدين له روح نضالية تحررية يهتم بالطبقة الشعبية، كان له ارتباط قوي بالطبقات الشعبية الفقيرة وقد وضع الطب المجاني والتعليم المجاني». وأضاف، أن «بومدين لم يكن إنسانا ماديا لم يأت للبحث عن الثروة والنفوذ، لم يترك أقاربه وأبناء عمومته يسيطرون على الثروة، فقد كان حامي ثروة الشعب ومناضلا يخدم البلاد بإخلاص، إنسان ثوري أنشأ مؤسسات ثورية، لديه إنجازات، فهو يملك شخصية وروحا وطنية». المجاهد صالح قوجيل: له رؤية استشرافية لبناء دولة المؤسسات في حوار سابق ل»الشعب» أكد المجاهد صالح قوجيل ورئيس مجلس الأمة بالنيابة، أن الراحل بومدين أعطى الأولوية لوضع خارطة طريق لإعادة بناء الدولة الجزائرية من القاعدة بعد تاريخ 19 جوان 1965، بدءا بوضع قانون البلدية والولاية والتحضير للميثاق الوطني، بحيث كانت للرجل رؤية استشرافية للنهوض بالتنمية الاقتصادية للجزائر، بالتركيز على طبقة العمال والفلاحين ومنحهما نفس الأهمية. وفي هذا الصدد، شرع في إصدار قانون وميثاق البلدية سنة 1967، بحكم أنه خلال الفترة 1962 إلى غاية 1967 كانت هياكل الدولة تسير وفق نمط الإدارة الاستعمارية. وبعد عامين أصدر قانون وميثاق الولاية وعقدت انتخابات المجالس الشعبية الولائية. وقبل سنة 1976 كان التحضير للميثاق الوطني وكانت فيه مناقشات عامة طيلة شهر تقريبا، وفُتحت أماكن لاستقبال المواطنين لإبداء آرائهم، وبعد الميثاق سيتم إصدار دستور سنة 1976، ونظّمت انتخابات المجلس الوطني الأول سنة 1977، وهكذا بدأ بناء الدولة الجزائرية تدريجيا وفق منظور الراحل بومدين التي شكّلت أولوية بالنسبة إليه. وبعد الانتهاء من هذه العملية، شرع في عقد مؤتمرات المنظمات الجماهيرية، بحيث خصّص المؤتمر الأول للعمال، وأعطى الراحل توصية بعقد مؤتمر الفلاحين كخطوة ثانية، وإعطاء نفس الأهمية والتوازن بين العمال والفلاحين، لأنهما مرتبطين بالتنمية. وبالفعل تمّ تنظيم مؤتمر الفلاحين ليأتي بعده مؤتمر المجاهدين، الذي يحمل طابعا خاصا، بحكم أن فيه إطارات قديمة وضباط جيش التحرير الوطني، بحيث طرح المجاهدون أسئلة كثيرة آنذاك وبومدين أجابهم بطبيعة الحال دون أية عقدة، لأنه كان على دراية بالقطاع. وحسب توصية الرئيس فقد تمّ تنظيم مؤتمر الإتحاد النسائي. وآخر مؤتمر نظم بدون حضور بومدين، هو مؤتمر الشباب بحكم أن الرئيس كان مريضا ويعالج في الاتحاد السوفياتي، وكان من المقرر أن ينظم مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني بعد الانتهاء من مؤتمر المنظمات للستكمال بناء الدولة، لكن الموت خطفه.