أخذ الوضع بشمال دولة مالي منعطفات خطيرة بعد أن إنقلبت التنظيمات الإسلامية المسلّحة المقرّبة من تنظيم القاعدة على الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وأنتزعت منها بقوّة النّار والحديد سيطرتها على هذه المنطقة التي أعلنتها دولة مستقلة شهر مارس الماضي... ويبدو جليّا اليوم أن البركان الذي تنام على فوهته هذه المنطقة الساخنة، بدأ يلقي بحممه إلى دول الجوار ليحرقها بعمليات إرهابية مرشحة لأن ترتفع وتيرتها، خاصة بعد التهديد الصريح الذي أعلنته حركة التوحيد والجهاد وأنصار الدين باستهداف أي دولة تقبل المشاركة عسكريا في حلّ الأزمة في مالي. ولم يعد الإنفصاليون التوارق وحدهم من يشكل الخطر في شمال مالي وعموم منطقة الساحل بعد أن دخلت على الخط المجموعات الإسلامية المسلحة التي إستغلت قوّتها العسكرية وأساليبها الترهيبية لتفرض هيمنتها على هذا الجزء من الأراضي المالية التي أصبحت خارج مجال السيطرة... ففي نهاية الأسبوع الماضي وقعت مدينة غاو، كبرى مدن شمال مالي والتي أعلنتها حركة الأزواد عاصمة لدولتها المعلنة من جانب واحد قبل نحو 4 أشهر ، بين أيدي حركة الجهاد والتوحيد المنشقة عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والتي تحتجز الديبلوماسيين الجزائريين، وحركة أنصار الدين وتحولت السيطرة في المنطقة من بين أيدي التوارق لتقع في قبضة الإسلاميين الذين أكدوا عزمهم وإصرارهم على الإحتفاظ بنصرهم الكبير هذا والدفاع عنه، ولم يكتفوا بالتهديد والوعيد، بل أبرقوا برسائل دموية من خلال التفجير الإرهابي الذي إستهدف القيادة الجهوية للدرك الوطني بورڤلة، ليؤكدوا بأنهم يقفون وراءه وبأن عمليات مماثلة، بل وأكثر خطورة ستطال أي دولة تفكر في التدخل عسكريا لتحرير شمال مالي... والظاهر أن التهديد الذي تشكله هذه المجموعات المقرّبة من القاعدة، هو الذي يكبح كل محاولات التحرك نحو تطويق الأزمة المالية وحلّها، ففي حين تطالب المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) وبإلحاح شديد، إرسال قوات مسلحة لاستعادة السلطة على الشمال، نجد المجموعة الدولية تتصدرها دول الجوار، تعارض بشدة هذا الخيار لما له من إنعكاسات أمنية خطيرة عليها وعلى المنطقة بأكملها، وتتمسك بالحلّ السلمي التفاوضي، فهو حسبها الأمثل و إن أخذ بعض الوقت وتآخر في تسوية الأزمة. وبين الموقفين نجد بعض الأوساط لا ترى في الخيارين حلا، فإستخدام الحوار أو القوة حسبها كان يمكن أن يأتي أكله لو كان الخصم هم فقط الإنفصاليون التوارق الذين لهم مطالب إجتماعية وسياسية مشروعة بالإمكان تلبيتها ونزع فتيل الأزمة. لكن العدوّ الحقيقي اليوم، هم المجموعات المسلحة التي لها إرتباطات وثيقة بتنظيم القاعدة وبفروعها المنتشرة في منطقة الساحل والصحراء الكبرى وشمال إفريقيا... وإختيار الحوار معهم أمر مرفوض تماما، أما مجابهتها بالقوة فسيكون بمثابة هزّ لعشّ الدبّور، وسيدخل المنطقة بكاملها في حالة من الأفغنة والعرقنة والصوملة. ولهذا نجد الجزائر المعنية أكثر من غيرها بإنعكاسات الأزمة في شمال مالي تتمسك بأقل الضررين وتصرّ على إستبعاد أي خيار تصعيدي يلهب المنطقة المشتعلة، ويمنح الضوء الأخضر لتدخل عسكري دولي تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وبالتأكيد الجميع يدرك كنة هذه الحرب ويتصوّر عواقبها والتي تهدد بتحويل شمال مالي إلى أفغانستان جديدة. الوضع في مالي خطير، وشماله الذي يتنازعه الإنفصاليون التوارق من جهة والمجموعات المسلحة من جهة ثانية، يجد نفسه معتقل ويعاني الطاعون والكوليرا، والوباءان كما نرى قابلان لنقل عدواهما إلى دول الجوار، فهل من دواء؟